تفسير قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه)
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧].
أي: هذا اليوم الذي يكون عسيراً على الكافرين في حسابهم وفي عذابهم وفي شدة محنتهم هو يوم يعض الظالم على يديه؛ ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧]، ففي هذا اليوم يندم الكافر، والظلم هنا هو الكفر، والظالم هو الكافر، والكفر أشد أنواع الظلم.
أي: يوم يعض الظالم والكافر في هذا اليوم يديه، وذاك كناية عن الندم، فالإنسان عندما يندم ويتحسر ويشتد ندمه تجده يعض أصبعيه، وقد ورد أنه يعض أصبعيه حتى يأكلهما ولا يشعر، وهو يقول: يا ويلتاه! يا ثبوراه! يا بلاياه! قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ [الفرقان: ٢٧]، وليس على يد واحدة، وإنما يعض هذه إلى أن يأكلها والثانية إلى أن يأكلها.
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧] و (يا ليتني) كلمة تمن فات وقتها، فلم ينتهز حياته قبل موته، ولا شبابه قبل شيخوخته، ولا صحته قبل مرضه، فندم ولات حين مندم، فيعض يديه وهو يقول: يا ليتني! فيتمنى ويتحسر في ألم وفي بكاء وفي حسرة، ولا نفع من ذلك كله.
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧]، ليتني اتخذت مع الرسول طريقاً توصلني إلى الهداية وإلى الإيمان، وتنقذني مما أنا فيه، ولكن هيهات فقد انتهت الدنيا ولن يعود ما فات.
والوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، والإنسان عند الاحتضار ورؤية الملائكة يصبح الغيب بالنسبة له شهوداً وحضوراً، فلا تنفعه توبة ولا استغفار ولا شيء، و ﴿لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨].
وهذا كما حصل لـ فرعون عندما أخذ في الغرق والاختناق، فصاح وقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، وهيهات، فقال الله له: ﴿آلآنَ﴾ [يونس: ٩١] أي: هل هذا وقت الإيمان؟ فقد كفر يوم طلب منه الإيمان، وأشرك يوم طلب منه الهداية، وكذب نبيين صديقين رسولين كريمين، وما آمن حتى رأى ملائكة العذاب تنزع روحه من جميع جسده وخلايا بدنه، وهكذا هنا يفعل الظالم.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧] أي: لا تنفعه ليت وقد انتهى وقت أخذ الطريق والسبيل والإيمان والهداية مع الرسول، فقد كان مكذباً له منتقصاً لمنزلته مشركاً بربه، ثم بعد التمني ينادي بالويل والثبور ويقول: يا ويلتي! يا ويلتى! كل تلك قراءات، ﴿لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧]، فينادي بويله، والويل واد في جهنم كله قيح وصديد، فينادي بالنهر وبالوادي هذا، وبالقيح والصديد من النار، وينادي بويله وثبوره، ويتمنى لو لم يتخذ فلاناً خليلاً، ولكل إنسان خليل.
والآية عامة في جميع الكفار، وسبب نزولها أن عقبة بن أبي معيط وأبا جهل وشيبة وأمية وخلف وعتبة وعتيبة هؤلاء الضالون المضلون كانوا يضللون الناس الذين يدعوهم النبي ﷺ إلى الخير والهداية، فكانوا يتبعون النبي ﷺ ويقولون لهؤلاء: لا تثقوا به ولا تصدقوه، نحن قومه وعشيرته، ونحن أعرف الناس به.
فأضلوا أولئك الذين يقولون هذا يوم العرض على الله ويوم الحساب والنشور، وينادون بالويل والثبور ويقولون: يا ويلتنا أو يا مصيبتنا! ويقولون: ﴿لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧]، وهذا نشاهده الآن وفي كل ساعة، فلا تكاد تجد كافراً سواء كان شيوعياً أو اشتراكياً أو ماسونياً أو وجودياً أو من عباد الصليب من النصارى أو من عباد العجل والعزير من اليهود أو من عباد الطبيعة أو من عباد الشمس أو عباد النار أو عباد الفروج أو عباد الأصنام والأحجار إلا ووجدته ضالاً مضلاً، تجده قد أضل شخصاً بعد أن هداه عالم أو داعية أو صالح أو مؤمن أو مسلم إلى عبادة الله، وحذره وأنذره وقال له: يا فلان! أقول لك الحق: من الذي خلقني وخلقك؟ ومن الذي خلق هذه السماوات العلى؟ ومن الذي خلق هذه الأرض وما عليها؟ أليس الله؟ هل كنت أنا وإياك قبل؟ وهل سندوم؟ وهل دام آباؤنا وأجدادنا؟ إلى أن كاد يؤمن، فيأتيه مجنون أو شيوعي أو مرتد أو نصراني أو يهودي ويقول له: أتقبل هذا الكلام من هذا؟ هذا رجعي متأخر يؤمن بالأديان وبالأنبياء وبالأكاذيب وبالأضاليل، وهكذا يضله ثم عندما يبعث يبعث معه، فتجده يصيح ويتمنى وهيهات، ولات حين مندم، ولا ينفع التمني إذ ذاك إلا زيادة في الحسرة وفي التوجع والألم، وتجده يصيح ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧ - ٢٨].
أي: لم أتخذه أخاً يخالل مني الجسم والروح، أي: خالله إلى أن سلمه حياته ومستقبله، فأضله وأوصله إلى لما توصل إليه الشياطين الإنسان، ولم يعتذر إلا بعد أن أصبح في السعير والجحيم الدائم الخالد، قال: ﴿يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٨].
ويقال: خليل وصديق وأخ.
وأما الأخوة العامة فهي الأخوة بين المسلمين، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وليس غير المسلم أخاً لك.
ولا تغتر بما يسمى بالإنسانية، فهي تعاليم وأضاليل يهودية، ولا بقولهم: الوحدة، فإنهم يعنون الوحدة مع اليهود، ولا الحرية؛ فإنما يعنون حرية اليهود.
والإنسان ضال مضل، كما قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢]، فالإنسان كله خاسر، وهو أشد من الحيوان ضراوة وحيوانية ووحشية إلا من استثنى الله بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: ٣]، والإنسان غير المؤمن حيوان أعجم كالأنعام، بل هو أضل، فالأنعام تستفيد من بطونها ومن ظهورها ومن أوبارها وأشعارها، وهذا الكافر الحيوان الأعجم إنما ضيق على الخلق ظاهر الأرض، فبطن الأرض خير له ولك من وجوده عليها.
قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: ١ - ٣]، ويكفي الإنسان أن يموت وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويكفي أن يموت وهو يعتقد ذلك جناناً وإن لم ينطق به عند الموت.
وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا لله دخل الجنة).
فهذا المؤمن ولو فعل كل أنواع الفسق فإن نعله وحذاءه وما يقع من رجليه أشرف من أكبر إنسان وفيلسوف وإمبراطور في الأرض إذا كان كافراً، والمؤمن هو سيد الخليقة بعد الأنبياء والرسل.
ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر: ٣] أي: المؤمن الذي يعمل الصالحات، والصالحات قيامه بالأركان الخمسة بعد الشهادتين: الصلاة والزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام إن استطاع إليه سبيلاً.
ثم الرتبة الثالثة: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣]، فهؤلاء الذين دعوا إلى الله، وتحملوا في سبيل دعوتهم ما يتحمله كل داع إلى الله كما تحمل الأنبياء: هم في أعلى الرتب، وأما الإنسان غير المؤمن فليس إلا حيواناً أعجم، فلا كرامة له ولا شرف، ونحن اليوم في جامعاتنا نقول: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والعلوم الإنسانية هي الاتفاق مع اليهود والاتحاد مع الملحدين والتعاون مع النصارى، وهذا ما قاله القرآن ولا دعا إليه ولا حض عليه، ولا يقبله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالله لم يقل إلا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وما عدا ذلك فليس بأخ لنا، فإن كان كافراً يقول على سيد البشر الكذب ولا يؤمن بالله الخالق فلا يزيد على أنه حيوان أعجم.
والله قد أخبرنا في كتابه بأن كل ما على الكون من جماد وحيوان يذكر الله، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤].
وهذا الكافر الإنسان لا يسبح، وإنما يكفر ويشرك رغم كونه من الأمة المحمدية، وهو من أمة الدعوة المحمدية، وأما أمة الاستجابة فهي الأمة المؤمنة.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧ - ٢٨]، والخلة أعلى رتب الأخوة، ومن هنا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن الله اتخذني خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ومن هنا قيل عن إبراهيم: خليل الرحمن، ونبينا كذلك خليل الرحمن، والخليل هو من خاللت محبته جميع خلايا الجسم، وهذه رتبة لا تليق إلا بالله، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يتخذ خليلاً إلا ربه وخالقه، وقال عن أبي بكر: (ولكن أخوة الإسلام) أي: أفضل بالنسبة للأخوة البشرية.