تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٣١].
يعزيه ربه ويسليه بألا تبأس ولا تحزن فإن العاقبة لك، فإن رأيت هؤلاء المجرمين في عصرك يشتمونك ويكذبونك ويؤلبون الناس عليك من أمثال أبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وشيبة بن خلف وعتبة بن ربيعة وأمثالهم من الجبابرة الطغاة؛ فهكذا كان الأنبياء قبلك، فقد كان لكل نبي أعداء مجرمون يؤذونهم ويشتمونهم ويتعرضون لهم بالسوء، كما قص الله جل جلاله علينا ذلك في قصص نوح وهود وصالح وإبراهيم والأنبياء قبل نبينا جميعاً على نبينا وعليهم سلام الله وصلاته.
يقول الله جل جلاله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: ٣١] أي: كما جعلنا لك عدواً فكذلك كان للأنبياء قبلك، فقد كان هناك مجرمون يجرمون في حقهم، ويكذبونهم ويشنعون عليهم ولكنهم صبروا وثبتوا، فكانت العاقبة لهم، وكذلك أنت يا محمد! اصبر واثبت فالعاقبة لك.
وقد كان ذلك، فعندما دخل مكة فاتحاً وقد ذلت الجزيرة لسلطانه ولأمره ونهيه جمعهم كما تجمع العصافير في ركن من أركان غرفة، وقال لهم: (ماذا ترون أني فاعل بكم؟) فأخذوا يتملقونه ويقولون: (أخ كريم وابن أخ كريم)، وإذا بالنبي ﷺ بعد قدرته وعزته وسلطانه يعفو عنهم ويقول: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ومنذ تلك الساعة لم يبق في الجزيرة ولا خارجها من يتعرض له، بل إنه هو ﷺ قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام وجه جيوشه في غزوة مؤتة وغزوة تبوك لحرب الروم المجاورين المهددين للإسلام ولنبي الله عليه الصلاة والسلام.
وما كاد يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى جاء خليفتاه العظيمان، بل الخلفاء الراشدون الأربعة فنشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فأخذوا الشام والعراق ومصر وفارس والمغرب، ودان الكل بدعوة الله وبدين محمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا خلال نصف قرن كان العالم من أقصاه شرقاً من الصين إلى جبال الألب في أرض فرنسا غرباً، وما بين ذلك شمالاً وجنوباً يدينون بدين الإسلام، وكلهم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والمآذن في جميع هذه البقاع مدناً وقرىً وجبالاً ووهاداً وبحاراً وفي كل مكان تؤذن الأوقات الخمسة بكلمة التوحيد.
وهكذا كانت العاقبة والنصر والتأييد له صلى الله عليه وسلم، وهكذا عاقبة كل الدعاة إذا صبروا وأخلصوا وأنابوا، فالعاقبة للمتقين.
قال تعالى: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٣١] أي: يا محمد! إن أعرض عنك جماعة وأجرموا في حقك وخذلوك وكذبوك وعادوك وأصبحوا مجرمين بالتكذيب وبتكفير المؤمنين بك، وقولهم عنهم: بأنهم صابئون -كما نقول اليوم: خائنون- تركوا دينهم الوثني وعبادة الأصنام إلى عبادة الله فيكفيك الله هادياً ونصيراً، فالله هاديك إلى الطريق الحق، وإلى الطريق المستقيم، وإلى وسائل النصر وغايته ونصره، وقد فعل جل جلاله، فهداه إلى الطريق الحق الموصل إلى الجنة وإلى الرحمة وإلى الرضا، وكذلك كل من تبعه ودان بدينه وقال بقوله، وهو وحده النصير والمؤازر والمؤيد جل جلاله، ومن كان الله معه وناصره فلا يحسب لأحد في الأرض حساباً، ولا يخاف أحداً إلا الله.
ولذلك كان شعار المؤمن هو الكلمة التي نقولها عشرات المرات في كل يوم في بداية الصلاة، وفي كل حركة من حركات الصلاة، وفي الأذان وفي الإقامة، وفي صلوات الفرض النافلة: الله أكبر.
فالله أكبر تعني: لا كبير مع الله، وكل ما خطر بالبال من طاغية أو فاجر أو ظالم أو جبار فالله أعظم وأقوى منه، وهو الذي يسلطه علينا إن شاء.
وما من جريمة أو ذنب أو عقوبة إلا نتيجة ذنب وجريمة، ولذلك فالمؤمن الحق إذا ضاقت به الأرض، وكثرت عليه الأعداء وتألبوا من مختلف بقاع الدنيا رفع يديه إلى الله وتضرع إليه قائلاً: يا رب! يا رب! ليس غيرك هادياً، وليس غيرك ناصراً، وخاصة في الثلث الأخير من الليل عندما ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ويقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من شاك فأشكيه؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ هل من مظلوم فأنصره؟).
وتلك الساعة والناس نيام إذا رفع الناس أيديهم لربهم وهم قائمون راكعون ساجدون فقمن أن يستجيب الله دعاءهم ويقبل ضراعتهم.
فالله جل جلاله القادر على كل شيء أمرنا بالدعاء وضمن لنا الإجابة، قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠].
وقال العارف: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا أي: ما ألهمك الدعاء حتى ضمن لك الإجابة، وكل ذلك شرح لقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠].