تفسير قوله تعالى: (وعاداً وثمود وأصحاب الرس)
قال تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨].
أي: اذكر يا محمد! عاداً وموقفهم من نبيهم هود، وثمود وموقفهم من نبيهم صالح، وأصحاب الرس مع نبيهم.
أما قوم عاد فقد كفروا بالله، وجددوا كفر قوم نوح من قبل، فعندما أغرقت أمة نوح جميعها لم ينج من الخلق إذ ذاك إلا أصحاب السفينة، وهم بضعة عشر فرداً.
فكان نوح ومن معه آدم الثاني للبشر والخليقة كلها، فقد نجحوا من الغرق لإيمانهم ولدينهم، وبعدما مضت قرون أخرى عاد بعض أبنائهم إلى الكفر والعصيان ونسوا الذكر؛ لما متعوا به من طول الأعمار وقوة الأبدان، وكانوا يسمون العمالقة؛ للطول والعرض، والقوة في البدن وفي المال وفي العمل.
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً وكانوا وكانوا، فتفرعنوا وطغوا وجددوا الكفر السابق من قوم نوح، وإذا بالله الكريم يرسل عليهم الصيحة والزلزلة، فزلزلت بهم الأرض زلزلاً، وصاح بهم جبريل صيحة صرع الكل.
ومن دخل إلى أرض ثمود يجد الإنسان هيكلاً عظمياً قائماً أو ممتداً أو جالساً، يحلب بقرة أو يدير رحى أو يركب حماراً، وهو على هذه الحالة.
وهذا أيضاً قد حصل لبعض الشعوب هناك، والله لم يذكر لنا الكل، وإنما ذكر لنا أمثلة، وسيلخص ذلك ويقوله بعد هؤلاء.
وقوله: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ﴾ [الفرقان: ٣٨] عندما كفروا بأنبيائهم هود وصالح، وشتموهما، وهددوهما، وكذبوهما، ولم يؤمن بهما إلا قليل من الناس، كذلك الله تعالى أذهبهم بالصيحة وبالزلزلة وأصبحوا كأمس الدابر أيضاً، فالله يهدد من لم يؤمن بمحمد ﷺ بعاقبة كعاقبة هؤلاء.
ثم قال: ﴿وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ [الفرقان: ٣٨] قال بعض المفسرين: هم ما تبقى من قبائل عاد وثمود.
والرس: بئر، فكانوا هؤلاء قد نسبوا لها، وهم فئة جاءت من بعد وكفروا ككفر أسلافهم.
وقال البعض: بل هي قبيلة من قبائل شعيب كذبوا شعيباً، ونسبوا لهذه البئر.
وقال البعض: بل هو نبي جديد أرسل إلى أرض اليمامة في نجد، وكان قومه مجاورين لبئر يستقون ويشربون منها، فأرسل الله لهم نبياً فلم يؤمن به إلا عبد أسود، وكلهم كذبوه، ورسوه في الرس، أي: رموه في البئر وغطوا البئر بصخرة، وتركوه ليموت جوعاً، ولكن هذا العبد الأسود الذي آمن به كان يأتيه خفية بالطعام وبالشراب، وأعانه الله على رفع تلك الصخرة عندما كان يقدم له طعاماً وشراباً.
وعاش هذا النبي زمناً حياً في هذا البئر المغلق عليه بهذه الصخرة، ثم بعد ذلك أخذت سنة لهذا العبد فنام بها سبع سنوات، ثم صحا وتقلب على الجانب الآخر، ثم نام نومة ثانية فدام فيها سبع سنوات بما يشبه حالة أصحاب الكهف، ثم قام ولا يظن أنه نام إلا أياماً، فذهب إلى البئر فلم يجد النبي، وإذا به يسمع أن القوم قد أسلموا له ودانوا له وتابوا من ما مضى.
وقال قوم: أصحاب الرس كانوا في أرض أذربيجان، وليس في بلاد العرب.
وقال قوم: كانوا في أنطاكية.
وقال قوم: هم أصحاب الأخدود الذين ذكر الله لنا قصتهم مطولة وستأتينا بإذن الله، فقد حفر لهم حفائر وقتلوا.
وقال البعض: هو صاحب ياسين الذي دعاهم للإسلام وكان مؤمناً بينهم، ولا نستطيع أن نخرج بشيء من ذلك بيقين؛ لأنه لم يرد في ذلك حديث صحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكننا نقول: إن أصحاب الرس جماعة، والرس معناه: البئر.
فأصحاب البئر أيضاً كذبوا نبيهم، فعاقبهم الله ودمرهم، وقد ذكرهم مع المدمرين والمهلكين من قوم نوح وهود وصالح، وقوم موسى وهارون.
وقوله تعالى: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨] أي: عصوراً أخرى لم يذكرها الله، والقرن مائة سنة عند الجمهور، وقيل: مائة وعشرون، وقيل: أربعون عاماً.
وقيل: ثمانون عاماً.
ولكن المعلوم في بيان الحديث النبوي الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
زاد في رواية: (ثم الذين يلونهم)، فقد ذكر أربعة قرون، وهي ما نسميها بالعصور الفاضلة، والجمهور على أنها ثلاثة: وهي: قرن النبي الذي عاش فيه ومعه أصحابه.
والقرن الثاني: قرن التابعين الذي يبتدئ بـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومضى قوله تعالى: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨] أي: بين قوم نوح وقوم موسى وهارون وقوم هود وقوم صالح وأصحاب الرس قرون كثيرة، وعصور ودهور تقدر بآلاف السنين ومئات الأنبياء، وكلهم كذبوا أنبياءهم فدمرهم الله وأهلكهم بين صواعق من السماء، وزلازل من الأرض، وصرع، وخسف، وغرق، وحروب تقوم بينهم تفنيهم جميعاً.
والله ذكر كل ذلك مفصلاً ومجملاً، وسمى البعض كقوم نوح ومن معه، ولخص اسم الباقي لكن جمعهم مع هؤلاء في التكذيب والإهلاك والتدمير.
فالله تعالى هدد الكفار بأن يدمرهم، ويهلكهم، ويقضي عليهم، ويتبرهم تتبيراً؛ نتيجة كفرهم وتكذيبهم للأنبياء.
وهذا التهديد لا يزال قائماً لساعتنا هذه وإلى يوم القيامة، فالعصر الذي برز فيه ﷺ وهو يدعو الناس إلى عبادة الله والإيمان به نبياً هو نفس العصر الذي نعيش فيه، فنحن مطالبون باتباع شريعة محمد والكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله، الذي يخاطب كل الخلق إلى يوم القيامة: بأن يؤمنوا بالله واحداً، وبمحمد نبياً وخاتماً للأنبياء والمرسلين، فمن لم يفعل ومن كذب وتهاون فهو مهدد بمثل ذلك، وما هذه الحروب، وهذا البلاء، وهذا الجوع والوباء أحياناً، وهذا الذي يجري في العالم الإسلامي قبل وبعد وفي حاضرنا إلا لما كذبوا أنبياءهم، وخرجوا عن دينهم، وارتدوا، وعصوا، واختلفوا، وخالفوا، ومن باب أولى الذين لم يؤمنوا بالمرة.
وفي عصرنا وما سيأتي فإن الكفار سيبقون دائماً مدمرين، هالكين، متبرين بالأنواع التي يريدها الله، ولعذاب الله أخيراً أشد وأنكى.


الصفحة التالية
Icon