تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل لباساً والنوم سباتاً)
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٧].
فالله جل جلاله هو الذي جعل الليل لباساً يلبس كل الخليقة، ويلبس كل الكون ويغمره ويغشاه، فلا يرى من الأرض شيء، وشبهه تعالى لستره وغشيانه وتغطيته باللباس، فالنهار نراه بيّناً عند شروق الشمس، وعندما يأتي الليل ويغشي النهار ويلج فيه لا يُرى من الأرض شيء، فتُصبح الأرض وقد كُسيت لباساً سترها فلا يُرى منها بحرها ولا برها، ولا وهادها ولا جبالها، كالإنسان الذي يكون عرياناً فيستره لباسه عندما يلبسه، فمن الذي خلق ذلك؟ يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ: ٩] أي: قاطعاً يقطع العمل، ويقطع الفكر، ويريح البدن، ويقطع شغله، فيريح الروح والبدن، وينقطع به الجسد عن الأشغال والأتعاب، وتنقطع به الروح عن التفكير بما يشغلها ويهمها، فيكون الليل لباساً، ويكون النوم سباتاً.
فالذي يمرض لا ينام، ويصيبه الأرق كثيراً، فيمرض جسده وتمرض روحه، ولا يكاد يستطيع العمل إذا هو أرق وسهر الليالي المتصلة؛ لأن هذا البدن الضعيف يحتاج إلى أن ينقطع عن العمل والحركة، وهذه الروح التي تجري فينا تحتاج كذلك إلى ما يقطعها عن التفكير، وعن الهم، وعن الاشتغال بما يخطر في البال أو بما يحرّك الجسد، فلو لم يكرم الإنسان بالنوم لينقطع عن العمل لمرض جسده، ولأشرف على التلف والهلاك، فمن الذي قدر على ذلك؟ ومن الذي خلق ذلك؟ ومن الذي أكرم الإنسان بذلك؟ إنه الله جل جلاله.
فلو جعل الله الدنيا نهاراً كلها أو ليلاً كلها، أو يقظة كلها أو نوماً كلها لاضطرب نظامها، ولتعب خلقها، ولعجزوا عن العمل وعن التفكير، ولكن الله جل جلاله جعل لعباده الليل لباساً يسترهم كما يستر البدن من العري، وجعل النوم سباتاً يقطع به أعمالهم وأفكارهم؛ ليجدوا راحة يستقبلون بها النهار بعد ذلك بنشاط وهمّة وقدرة جديدة.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٧] فهو الذي جعله نشوراً تنتشر فيه الخلائق في الأرض، فهذا إلى مصنعه، وهذا إلى متجره، وهذا إلى مكتبه، وهذا إلى مزرعته، وهكذا ننتشر بعد النوم وبعد السبات وبعد الليل وبعد السكون، فحين تشرق الشمس ويصبح النهار نأخذ في الانتشار؛ لنرتزق ولنتكسب ولنعمل لديننا ودنيانا، فلو كان الليل سرمداً لتعب الناس كثيراً، ولشقّت عليهم الحياة، وقد وجد بعض هذا في الأرض، ففي الشمال عند القطب المتجمد يكون اليوم سنة كاملة، فستة أشهر هي ليل لا شمس فيها ولا نهار، والستة الأشهر الثانية نهار لا ليل فيها، فيرتب الساكنون بقرب ذلك المكان يومهم على أنه اثنتا عشرة ساعة، فينامون بعضها ويعملون في بعضها، ولكنك تجدهم منهكين أجساداً وفكراً وروحاً.
فالله تعالى جعل أغلب الأرض على الليل والنهار في الساعات المحدودة.
فهذا الخلق من ليل ونهار، وظل وشمس، ونوم ويقظة، وظلام ونور، كل ذلك خلقه الله لهذا العبد ليشكر نعم الله عليه، ويأخذ من ذلك أدلة واضحة قاطعة على قدرة الله على كل شيء.


الصفحة التالية
Icon