معنى قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)
قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] أنزل الله من العلو ماء طهوراً، أي: ماء آلة وأداة للطهارة والتطهير، فلا تكون الطهارة في البدن والثوب، ولا يكون الغسل والوضوء للصلاة والاعتكاف والطواف والسعي إلا بهذا الماء، وطهور: فعول، كقولك سحور: أي طعام السحور، وفطور: أي طعام الفطور.
وقد فهم جمهور الفقهاء من ذلك أن الماء الذي لا تجوز الطهارة إلا به هو الماء الصافي غير المختلط ولا الممتزج بشيء معه، فهو أداة الطهارة وأداة النظافة وأداة ما يتعبد الإنسان به في وضوئه وغسله؛ ليصلي لله، وليطوف بالكعبة المشرفة، وليسعى بين الصفا والمروة، وليقوم بما لا يتم إلا بالطهارة بالماء من العبادات.
ومن هنا يقول الفقهاء الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وعليه جماهير الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين: إن الماء الذي يصلح للطهارة هو الماء الذي لم يختلط بشيء، وزادوا على ذلك فاستدلوا بقول النبي عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن ماء البحر، فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) فهو الطاهر ماءاً، وهو الأداة التي تصلح للطهارة، وهو مثال للماء الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، فعند الأئمة الثلاثة وجماهير الفقهاء من الصحابة فمن بعدهم أن الطهارة لا تحصل إلا بهذا الماء.
وفسّر الحنفية الطهور بالطاهر، فقالوا: كل مائع تصح الطهارة به، فصححوا الوضوء بالنبيذ وبالخل وبالعصير وبماء الورد وبماء الزهر، وهذا الذي قالوه هو فهم استدلوا عليه بآثار لم يصححها الجمهور، وقالوا: إن كلمة (الطهور) في القرآن المراد بها آلة الطهور، أي: آلة ما يتطهر به الإنسان، وليس معناها الطاهر فقط.
وقالوا: قليل الماء ينجّسه قليل النجاسة، وكثيره لا ينجسّه شيء إن لم يتغير به، فإن كان الماء كثيراً فاختلط به شيء فإنه إن غيّر أحد أوصافه الثلاثة -أي: اللون أو الطعم أو الريح- فعند ذاك لا يتوضأ به، ويُعتبر غير صالح للتطهير.
والماء طهور لا ينجسه إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه، إن كان هذا التغيير بشيء ليس من أصل الماء، كأن يمر الماء على معدن كبريت أو حديد أو زئبق فنجد طعم ذلك المعدن في الماء فهذا لا يضره، وكأن نجده قد تغير بالتراب نتيجة سيل أو أمطار غزيرة، فهذا لا يضره؛ لأنه تغيّر بالتراب الذي يمر عليه.
وأما إذا تغير بشيء ألقي فيه فتغير أحد أوصافه الثلاثة فإنه لا يصلح ولا يجزئ للطهارة.
وقال الشافعية: ينجس الماء إذا لم يبلغ القلتين بمجرد وقوع النجاسة فيه، واستشهدوا ببئر بضاعة في الحياة النبوية، فهذه البئر كانت تلقى فيها الأزبال، وتلقى فيها الأقذار مما يغير أحياناً لوناً وطعماً وريحاً، ومع ذلك كان الأصحاب يتوضئون منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء الطهور لا ينجسه شيء) أي: هذا الماء رغم ذلك لا ينجس ولا يغير، قال الشافعي: لأنه بلغ القلتين، وقالوا: القلتان من قلال هجر، ثم قدّروهما بالوزن فقالوا: وزنهما خمسمائة رطل.
واستدلوا بمفهوم حديث (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، وهذا الحديث ينازعهم فيه أصحاب المذاهب الأخرى فيقولون: قد اضطرب سنداً ومتناً، وبذلك ألغوا الاحتجاج به واكتفوا بكون الماء لا ينجّسه شيء ما لم يغيّر لوناً أو طعماً أو ريحاً، وقالوا: إذ تغير أحد أوصافه ففي هذه الحالة لا يبقى ماءاً، ونحن قد تُعبّدنا بالتطهر بالماء، فإذا أصبح الماء ماء الزهر أو الخل أو النبيذ فلا يكون ماءاً، بل يقال عنه: خل ونبيذ وعصير، والشارع لم يتعبدنا إلا بالماء، والماء هو الماء المعروف عندنا النازل من السماء، والنابع من الآبار ومن الأعين والكائن في الأنهار، فهذا هو الماء كما ذكره الله ووصفه، وهو الذي ينزل من السماء وينبع من الأرض ويوجد بأصل الخلقة في البحار، فإن تغير بشيء لوناً أو طعماً أو ريحاً ولو بالطاهر لم يصلح التطهر به، خلافاً لقول الأحناف بأنه يجوز الوضوء بالنبيذ وبالعصير وبالخل وبالشاي وما إلى ذلك، وهذا خروج عن النص؛ لأن الله قد قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨]، فالماء أداة للطهارة، وهذا لا يُسمى ماءاً، بل نُسميه خلاً ونُسميه نبيذاً، ونُسميه ماء زهر وورد.