معنى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الفرقان: ٥٩].
فما هو هذا الاستواء؟ وما هو هذا العرش؟ طالما أكثر في ذلك المكثرون، وطالما حكى الحاكون، وكل ما يقال في ذلك مما هو غير مستند لآية أو لحديث هو ضرب من القول ومن الفلسفات التي لم يأت عليها من الله سلطان، كتفسير الاستواء بالتمكن والتسلط، وتفسير الكرسي بالقدرة والإرادة.
والعرش ثابت ذكره في الكتاب، وثابت ذكره في الأحاديث المتواترة المستفيضة.
وعرش الرحمن هو أعلى شيء من خلق الله، فالسماوات العلى فوقهن الكرسي، وفوق الكرسي العرش، والسماء الأولى أكبر من الأرض، والثانية أكبر من الأولى، والسابعة أكبر مما قبلها، والكرسي أكبر من السموات، فما السماوات السبع أمام الكرسي إلا كسبعة دراهم ملقاة في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ملقاة في صحراء كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم أشار النبي عليه الصلاة والسلام بيده إلى أن عرش الرحمن كالقبة فوق مخلوقاته.
وهذا يشير إلى أن الأرض كروية، وقد قال ذلك علماء المسلمين قبل أن يقوله هؤلاء، وقد نقل فيه الإجماع عن المسلمين لنصوص الكتاب والسنة، قال ذلك ابن حزم، وقاله الغزالي، وقاله الرازي.
وذكروا من نصوص القرآن قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ [الزمر: ٥]، فكلمة (يكور) تدل على ذلك، وكذلك الحديث الصحيح الذي فيه أن عرش الرحمن على سماواته كالقبة، وعلى هذا أجمع علماؤنا، فنفي ذلك وإنكاره إنكار للإجماع وخروج عن الإجماع، والنصوص تؤكد ذلك، وما أخذ هذا إلا من النصوص.
وأما الاستواء فلا نقول فيه ما قاله علماء الكلام من فلاسفة المسلمين كالأشاعرة والماتوريدية والمعتزلة وسائر فرق علم الكلام، ولكننا نقول ما قال الإمام مالك، ونقل ذلك عن بعض السلف، من التابعين والصحابة رضوان الله عليهم، فقد جاء إلى الإمام مالك رجل فسأله فقال: يا أبا عبد الله! ما معنى (الرحمن على العرش استوى).
فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال له: الاستواء معلوم -أي: لغة-، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة.
ونادى: يا شرطي! أخرج هذا من المسجد.
وكان هذا السؤال في المسجد النبوي، فعد مجرد السؤال عن هذا بدعة؛ لأن هذا شيء لم يبحث فيه السلف؛ لأننا أمرنا بأن نعلم عن الله صفاته العالية، ونعلم عن الله أسماءه ونعوته المقدسة، وكل أسمائه جل جلاله حسنة عالية، أما كيفية الله وكيفية علوه وكلامه واستوائه فذلك أمر لم يشرع البحث فيه.
والباحث فيه نقرأ عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، ونقرأ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، فلا يشبه خلقه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما خطر ببالك فالله بخلافه، ولكننا نثبت له تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته نبينا في سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما الكيف فغير وارد، فإن سألت عن الكيف فكأنك تسأل ماذا يشبه؟ فالسؤال في الأصل فاسد، وما كانت مقدمته فاسدة كانت نتيجته فاسدة، ولغتنا أضيق من أن تتسع للمعاني العلوية السماوية، وما كانت الألفاظ الإلهية إلا قوالب لتقريب المعاني للإنسان، أما كيف ذلك فالله أعلم به، حتى قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر في الآخرة ليس منه في الدنيا إلا الأسماء.
أي: أن كيفية ما فيها لا يعلمها إلا الله تعالى.
فالأسماء تقريب للمعاني، فنسمي ما فيها بالأسماء التي سماها الله في كتابه ونبيه عليه الصلاة والسلام في سنته، وتحقيق ذلك الله أعلم به.
فإذا كان هذا في خلق الله مما في الجنة ومما في النار، فكيف بما يتعلق بذات الله؟! ولا نقول كما قال أقوام: الله جل جلاله ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق العالم ولا تحت العالم، إذاً أين هو؟! فهذه صفة المعدوم.
وهذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، وهو كلام لا يقبل بحال من الأحوال، فالذي ليس في السماء ولا فوقها، ولا في الأرض ولا تحتها، ولا في الأكوان ولا خارجها إنما هو العدم.
ولكننا نقول ما قال الله، فقد قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤]، وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤]، وقال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥].
وهكذا نثبت لذاته العلية ما أثبته، ونقول ما قاله الإمام مالك: الاستواء معلوم، أي: في اللغة العربية، وباللغة العربية نزل كتاب الله، أما الكيفية فنجعلها، وهذا ما لم يبينه الله لنا ولا نبيه عليه الصلاة والسلام، فالكلام في هذا عبث قد يوصل إلى الكفر من حيث لا يشعر الإنسان.