تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً)
قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣].
هذه بداية سلسلة من الآيات الكريمة في صفة عباد الله المؤمنين التي يجب أن يطيل الاعتبار بها المؤمن، فيزن نفسه بميزانها، فإن وجد نفسه متخلقاً بها فهو مؤمن، وإذا وجد نفسه غير متخلق بها فهو مؤمن ناقص الإيمان بمقدار ما نقص من هذه الصفات.
قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: ٦٣ - ٦٤].
إن عباد الرحمن هم جميع خلقه، ولكن المراد هنا عباد الرحمن الذين يعبدونه بصدق، فهم عباد في الخلقة، وهم عباد كذلك في العمل، وهي صفة لا تكون إلا للمؤمنين.
يقول تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣] فهؤلاء تجد صفتهم في مشيتهم، وبعضنا تجده يمشي في الطريق وهو يترنح يميناً وشمالاً، فيمشي وكأن الأرض لا تحمله، ويكاد يشق الأرض والجبال، وهو أعجز عن ذلك، فيرفع رأسه كأنما يريد أن يطير! فإن قيل له: لم كل ذلك؟ يقول: أنا غني، أنا شاب، أنا جميل، أنا ابن فلان، وهذه صفة الكفار وليست صفة المسلمين.
وقوله تعالى: (الذين يمشون) أي: يعيشون، فحياتهم تمشي على هذا الأساس، وليس المراد المشي فقط.
وقوله تعالى: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣] الهون: الرفق واللين، فيعاملون الناس برفق، ويعاملونهم بلين، وإذا مشوا مشوا وعليهم السكينة والوقار، لا بالذل؛ إذ لا يليق الذل بمؤمن، فقد رأى عمر بن الخطاب يوماً شاباً يمشي متباطئاً، فقال له: ما بالك، أمريض أنت؟ قال: لا.
فقال: ولم تمشي هكذا؟! ارفع رأسك؛ فإن الإسلام عزيز منيع، وضربه بالدرة.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا مشى فكأنما ينحط من صبب، وكأنما يقلع من الأرض قلعاً، فإذا رفع رجله رفعها كلها بقوة، ولا يمشي وهو يسحب برجله على الأرض كما يفعل كثير من الناس، فإذا رفعها رفعها باقتلاع، وإذا وضعها فكأنما ينزل من صبب، وهذه هي مشية الرجولة.
وكان ﷺ إذا مشى أسرع في خطاه، وهذا كله مع الوقار ومع السكينة ومع التواضع لله جل جلاله.
وقد قص الله علينا قصة لقمان مع ولده وهو يأمره وينهاه، حيث قال له: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا﴾ [لقمان: ١٨]، ثم قال له: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: ٣٧]، فلا الأرض ستخرقها ولا الجبال ستدخل فيها، فيجب أن تمشي برفق وبلين وتواضع وعبودية، أما مشية الخيلاء فهي مشية من لا يؤمن بالله.
ولما دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة معتمراً بعد صلح الحديبية كان معه الشيخ والمرأة والمريض والصحيح، وقد قطعوا الطريق ومنهم الراجل ومنهم الراكب، فلما دخلوها قال الكفار: جاءكم محمد وأصحابه قد وهنتهم حمى يثرب، وهم عجزة يجرون أرجلهم جراً لا يكادوا يتحركون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (رحم الله امرءاً أراهم من نفسه قوة)، وأمرهم بالرمل، وهذا سبب مشروعية الرمل عند الطواف، فلما رأى ذلك كفار قريش أسقط في أيديهم.
وبقي ذلك مشروعاً، ولذا جاء عمر حاجاً أو معتمراً في خلافته، فقال: كان الرمل لإظهار القوة على الكفار، وليس هنا كافر، ثم عاد فرمل وقال: شيء صنعناه مع رسول الله لا نتركه.
فالرمل بقي ذكرى لذلك اليوم، وهو اليوم الذي دخل فيه الإسلام ضعيفاً، وكانت مكة بيد الكفار، فأراد النبي ﷺ أن يغيض الكفار ولو بهذا، فانتهت بعد ذلك تلك العلة، ولكن بقي الرمل، كالسعي بين الصفاء والمروة، وكرمي الجمار، فلكل ذلك معنىً ولكل ذلك مغزىً ولكل ذلك سبب سبق وقته.
يقول تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣]، فعباد الرحمن الصادقون هم الذين يمشون على الأرض هوناً برفق ولين، فيمشون بالأقدام، ويمشون في السيرة مع الناس برفق وبلين، بلا عنف وجبروت، ولا طغيان وتكبر؛ إذ لا يليق ذلك بالمؤمن، ومن نازع الله كبرياءه كسره، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.


الصفحة التالية
Icon