تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا)
قال الله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: ٦٥].
وجد موسى طلبته ووجد بغيته وهو الخضر، بعد أن تعب ولقي نصباً، وبعد أن سافر أشهراً طوالاً، ومن لذة الوجدان والحصول على المقصود وجد نشاطاً في ذلك، وأخذ يعطي معه ويأخذ.
قوله: (فوجدا) أي: وجد موسى ويوشع، وسينقطع ذكر يوشع من هذه الفقرة في هذه الآية.
﴿عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: ٦٥] لم يسم الله هذا العبد، ولكن النبي ﷺ في صحيح البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة سماه الخضر، وقد قيل: هو ابن آدم مباشرة، وقيل: ابن نوح، وقيل: من بني إسرائيل، وقيل: كان ملكاً، وقيل: كان حاكماً، وقيل غير ذلك.
وكما قلت: من هدي القرآن الكريم عندما يأتي بالقصة لا يراد منها ما يراد من القصص عادة، وإنما يراد منها ما كان عبرةً وعظةً ودرساً للسامع، أما الأسماء والأزمان والقبائل فلا حاجة لذكرها؛ لأنه لا صلة بينها وبين العبرة والعظة والحكمة.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام سمى هذا العبد فقال: هو الخضر، وكما مضى ذلك مبيناً، يقول الله عنه: (آتيناه رحمة من عندنا) أي: أنعمنا عليه بها، ما هي هذه النعمة؟ هي الولاية أو النبوءة؛ لما سيظهر معنا في آخر القصة عندما يقول: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢] وهذا يدل دلالةً واضحةً ظاهرة بأنه كان نبياً موحى إليه، وقد قيل في حديث فيه ضعف: كان رسولاً كذلك، ولكن الحقيقة والصحيح وما يدل عليه ظاهر الآي أنه كان نبياً موحى إليه.
وما عمله من قتل غلام لم يبلغ الحنث بعد، ومن خرق سفينة كان يركبها مساكين، فهذا العمل ليس بعمل ولي، ولو فعله الولي ولم يكن موحى إليه، لكان ذلك نتيجة الإلهام كما قال من قال عنه ولي، والإلهام لا يصل لدرجة الوحي، ولو صنع هذا في الأمة المحمدية رجل ولو كان من الصحابة، وقال: قتلت الطفل الفلاني؛ لأنني ألهمت أنه سيكون عاقاً لوالديه، فأردت أن أريحهما من طغيانه وكفره، لقلنا: إن الغيب لا يعلمه إلا الله، والوحي قد انقطع بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والإلهام لا يجوز أن يكون معه هذا؛ لأن الإلهام يخطئ ويصيب، وليس كذلك الوحي.
وقوله: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الكهف: ٦٥] أي: آتاه النبوة والحكمة والوحي.
وقوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: ٦٥] أي: علمه العلم اللدني الذي لم يتعلمه من شيخ أو من كتاب، ولكنه علم من الله علمه إياه بطريق الوحي، فكان بذلك الخضر أحد أنبياء الله الذين ذكروا في القرآن من غير أن يسموا، ولكن سماه من أنزل عليه القرآن ليبينه للناس صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يكون قد أشاد الله جل جلاله بعبده هذا الذي لقيه موسى، وأنه كان من العلماء النبيين، وقد أكرمه الله بعلم من عنده ولم يكرم به سواه، بل لم يكرم موسى بمثل ذلك.
وإذا بموسى يقف على الخضر ويجده ممتداً على فروة خضراء من الحشيش، في ثوب جعل طرفه كالمخدة عند رأسه، والطرف الثاني غطى به رجليه، فقال له: السلام عليك، فقال: وعليك السلام، ما بأرضك السلام؟ من أين لك بالسلام؟ وكان المكان الذي فيه الخضر ليس فيه إلا كافر ومشرك لا يعلم سلاماً ولا يعلم تحيةً بسلام؛ ولذلك عجب الخضر، فأجابه عن السلام وقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
هكذا في الحديث الصحيح.


الصفحة التالية
Icon