تفسير قوله تعالى: (طس)
سورة النمل سورة مكية اشتملت على ثلاث وتسعين آية.
قال الله تعالى: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: ١].
الحروف المقطعة اختلف الناس فيها اختلاف طويلاً، ولا يوجد في القرآن ما يقطع بتفسيرها، ولم يصح عن نبي الله ﷺ تفسير لها، وكثير مما قيل قيل بغير دليل، كقول بعضهم: اسم الله الأعظم، وقول بعضهم: هي تدل على رموز وأرقام، وقال ابن عباس: لقد أعجز العلماء تفسير هذه الحروف المقطعة في فواتح السور.
ولكن الإمام الزمخشري في تفسيره يقول: معنى هذه الحروف واضح بين، وقد استقرأ في فواتح السور وخرج بتفسير يقطع به ويتأسى به، وأكد تفسيره هذا صديقنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره الذي يعتبر أعظم تفسير في هذا الوقت، وهو أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، وقد مات قبل أن يتمه، وقد أيد ما ذهب إليه صاحب الكشاف، وقد قبلت ذلك وآمنت به عن قناعة قبل أن أقرأ ذلك للشيخ الشنقيطي رحمه الله.
فنحن نجد من استعراض هذه الحروف أنه يذكر معها القرآن، كقوله تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ﴾ [البقرة: ١ - ٢]، وقوله: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: ١]، وقوله تعالى: ﴿حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الأحقاف: ١ - ٢]، وهكذا، فلا تكاد تذكر هذه الأحرف إلا ويذكر معها القرآن.
وهي حروف الهجاء التي منها تتركب اللغة العربية، كقوله تعالى: ﴿الم﴾ [البقرة: ١]، ﴿طس﴾ [النمل: ١]، ﴿حم﴾ [الأحقاف: ١].
فهذه الأحرف منها كان القرآن الكريم المعجز الذي تحدى الله الخلق منذ أنزله إلى يوم القيامة في أن يأتوا بسورة من مثله، أو أن يأتوا بآية مثله، ولم يستطيعوا على كثرة البلغاء وكثرة الفصحاء، وسيدهم وإمامهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإننا عندما نقرأ السنة النبوية على فصاحتها وعلى بلاغتها ثم نقرأ القرآن الكريم نجد الفرق شاسعاً وعظيماً بين كلام الله في كتابه وبين قول نبيه في سنته صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: أن هذا القرآن الذي أعجزكم فلم يستطع أحد أن يأتي بمثله ما خرج عن حروف اللغة العربية.
وعندما أنزل القرآن كانت قريش والعرب تتكلم باللغة العربية سلاقة، وما كانت تحتاج إلى سيبويه ولا إلى الكسائي ولا إلى أحد من علماء النحو وعلماء اللغة، فالقرآن نزل بلغتهم.
فكانوا يفهمونه كما نفهم اللغات الدارجة بيننا اليوم، وطالما استمعوا إلى القرآن خفية وعلناً فلم يجدوه شعراً، ولم يجدوه نثراً، بل أخذوا يعجبون ويقولون: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.
وما جاءوا بمثله، وما استطاع ذلك أحد، وقد حاول الكذاب مسيلمة معارضة القرآن فأتى بخزعبلات وأتى بهذيان وأتى بركيك القول الذي يضحك الثكلى، فأصبح موضع سخرية وهزء به وبنبوته وبقرآنه وبقوله أبد الآباد.
فنحن هنا نؤكد ما قاله الزمخشري وأكده الشنقيطي، فالقرآن عندما يأتي بهذه الحروف المقطعة فمعنى ذلك أن هذا القرآن المبين، كتاب الأولين والآخرين، دستور المسلمين وقانونهم ومجمع آدابهم ومجمع قصص من سبقهم ومن سيلحقهم وإلى يوم القيامة، نظم وجمع وقاله الله جل جلاله من هذه الأحرف بلا زيادة ولا نقصان، فما زاد فيها حرفاً ولا نقص منها حرفاً.