تفسير قوله تعالى: (إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً)
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ [النمل: ٧] كانت تلك الآيات الخمس الأولى كالديباجة والمقدمة لهذه السورة الجليلة، ومنها اتخذ العلماء والمؤلفون المقدمات والديباجات لمؤلفاتهم.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ﴾ [النمل: ٧]، وقصة موسى تتكرر، وفي كل سورة يكون فيها معنى زائد، ومجموعها يعطي الحكمة والعلم والمعرفة.
وقد خص الله موسى بكثير من الخصائص، أما نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه فما من آية خص بها نبي متقدم إلا وأكرمه الله بها وزاده عليها.
يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ﴾ [النمل: ٧] قال ذلك عندما خرج من أرض مدين من عند صهره شعيب، وليس هو شعيباً النبي، فشعيب النبي كان قبل ذلك، كان بعد قوم نوح وبعد قوم عاد وبعد قوم ثمود، فخرج موسى عليه السلام بعد أن أقام عنده السنوات التي اتفق عليها، وقد سئل ﷺ عن الذي قضاه موسى مع صهره شعيب، فأخبر بأنه قضى الأكمل، أي: عشر سنين، ثم أخذ أهله في ليلة باردة مطيرة وقصد أرض مصر حيث ولد وحيث توجد أمه وحيث يوجد أخوه هارون وحيث يوجد قومه من بني إسرائيل المستعبدون لفرعون وقومه.
فما كان يقصد سوى ذلك، ولا يعلم الغيب إلا الله، ولم يرسل بعد ولم ينبأ، وحين خرج من عند صهره من أرض مدين ضل الطريق، وكانت الليلة مظلمة مع شدة البرد وشدة المطر، فما درى أين يقصد، وإذا بنار تظهر من بعد في جبل الطور في أرض سيناء، فقال لأهله: انتظروني.
يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ﴾ [النمل: ٧].
أي: اذكر -يا رسولنا- حين قال موسى لأهله -أي: لزوجته، والأهل لفظ يشمل الزوجة والولد- ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ [النمل: ٧].
رأى موسى ناراً تشتعل من بعيد في شجرة خضراء عند جبل الطور في أرض سيناء، فآنس خيراً ورجا خيراً في أن يعلم الطريق التي توصله لمصر، أو أن يأتي بما يتدفأ به هو وأهله بعد أن قرصهم البرد وأضر بهم، وأمرها أن تنتظره قليلاً، فانتظرته وذهب، وإذا به يرى ناراً متأججة في شجرة خضراء شديدة الخضرة، فلا الشجرة الخضراء يبست، ولا لونها تغير، ولا النار انطفأت، فوقف مندهشاً متعجباً.
وكان قد آنس النار، أي: أبصرها ورآها وفيها معنى الأنس، كما يقال في اللهجة المكية الحجازية: آنسكم فلان، أي: أنستم به ووجدتم به زوال الوحشة، ووجدتم به الصلة والقربة.
وكذلك موسى كان غريباً منفرداً منقطعاً في هذه الصحاري والفيافي، وكان في الليل لا يبصر الطريق، وكان في برد شديد، فعندما رأى النار استأنس بها وطمع في أن يجد هناك من يدله على سواء الطريق، أو لعله أن يأتي منها بجذوة نار يصطلي بها من هذا البرد الشديد هو وأهله.
وأتى موسى بخبر أي خبر! أتى بالخبر العظيم، فموسى الطريد الشريد من مصر الخائف على حياته المضطهد من فرعون وقومه كانت هذه الليلة بالنسبة له ليلة شرف وكرامة، وهي ليلة رسالته ونبوءته، وإدخاله في الخمسة من أولي العزم من الرسل، وكان له ما لم يكن لمن قبله من الأنبياء والرسل.
قال تعالى: ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ [النمل: ٧].
أي: إما أن يأتي بخبر ممن يدله على الطريق، أو -على الأقل- يأخذ من هذه النار شهاباً، والشهاب هو القبس، فنعت الشهاب بصفة هي منه وإليه، وقرئ في السبع: ((بِشِهَابِ قَبَسٍ))، من باب إضافة الشيء إلى مثله وإلى نظيره، على أن الشهاب هو عود اشتعلت النار في طرف منه فقط، ويمكن قبضه من الجهة التي لا نار فيها، والجذوة من النار القطعة من النار، فهي بذلك جذوة وهي قبس وهي شهاب، وكل هذه المعاني تؤدي معنى وجود نار يمكن أن يجد بها دفئاً له ولزوجته.
فلما وصل ورأى هذا المنظر المدهش العجيب وقف مشدوهاً ذاهلاً، وقد جاء في تسمية هذه الشجرة أشياء هي من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن نبي الله ﷺ شيء ولا عن الصحابة، وقد يذكرها بعض الصحابة نقلاً عن كعب الأحبار، وهو من علماء اليهود الذين أسلموا وبقوا يروون من كتبهم ما صح وما لم يصححه كتاب الله ولم يصححه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عندنا كلام لا نقبله ولا نعتمده ولا نلتفت إليه.