تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: ١٥].
وهكذا ننتقل بعد اختصار قصة موسى كما ذكرها الله في سورة النمل إلى قصة داود وولده سليمان، فالله جل جلاله يخبر بأنه آتى داود وسليمان علماً، وداود نبي من أنبياء الله وملك، وسليمان ابنه نبي من أنبياء الله وملك، فهذان ممن جمع الله لهم بين النبوءة والملك، ونبينا عليه الصلاة والسلام خير بين أن يكون عبداً رسولاً وملكاً نبياً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، أي: لا يعيش عيشة الملوك ولا ترف الملوك ولا بأوامر ونواهي الملوك، بل عاش عبداً في أوامره وفي نواهيه وإن كانت ولاية الدولة لنبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يد أعلى من يده، يولي ويعزل، ويقيم الحدود فيرجم ويقتل ويقطع ويجلد، ويولي الرسل، ويولي القادة، ويولي الأمراء على النواحي والمدن والأقاليم، ويرسل السفراء إلى الأباطرة والقياصرة ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى الله.
وهذه وظيفة الملك، ولكنه مع ذلك كان يفعل فعل العبد المتواضع لله بلا حشم ولا أتباع على كثرتهم، فكان ﷺ لا يحب أن يقام له، ولا يسمح أن يكون قاعداً وهم قائمون على رأسه، فكان يعيش عيشة العبد المتواضع لله على أن أوامره ونواهيه وأحكامه تشمل جميع جزيرة العرب جيوشاً ومدناً وقرى، وكل ما يفعله رئيس الدولة قد فعله، وكل ما يفعله ملك قد فعله.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ [النمل: ١٥]، آتى نبييه ورسوليه الكريمين الملكين علماً.
والعلم هنا نكرة يشمل كل نوع من أنواع العلوم، ومع ذلك قد حدده البعض بأنه علم القضاء، وسياق الآية لا يحمل ذلك، بل آتاهما الله علماً في القضاء، وعلماً في الأحكام، وعلماً في الحقيقة، وعلماً في المعرفة، وعلماً في تجنيد الجيوش، وعلماً في تسيير شئون الدولة، وسخر سليمان الرياح، حتى طلب سليمان ألا يكون ذلك الملك لأحد بعده، فكان سليمان أوسع ملكاً وأعظم جاهاً وسلطاناً.
وبعد أن أكرمهما الله بما أكرمهما به شكرا الله على عطائه وعلى ما منحهما به، وعلى ما خصّهما به، قال تعالى: ﴿وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [النمل: ١٥] والذي يبقي النعم هو شكر الله على كل ما أنعم به من النعم الظاهرة والباطنة، والشكر يزيد النعم، قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧].
وعذاب كفر النعمة أن يُسلبها من أُنعم بها عليه، ولا يفعل هذا إلا بمخذول.
قال تعالى: ﴿وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: ١٥] فحمد الله على أنه فضّلهما على كثير من المؤمنين، ولو قالا: (فضّلنا على جميع عباده المؤمنين) لما بقيت هناك رُتبة لنبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن سليمان مر في إحدى سفراته وهو على بساطه في الجو على مكة، وطاف بالبيت، وحج كفعل جميع الأنبياء قبله وبعده، وقال لمن معه: في هذه البلدة سيولد خاتم الأنبياء وسيد الأنبياء، وحضّ على من عاش وأدركه على أن يؤمن به كما أُخذ عليهم العهد بذلك.
فلو قالا: (فضّلنا على العالمين) لكانا قد فُضِّلا حتى على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يفضّل على محمد ﷺ أحد، فهو سيد العبيد وإمامهم.


الصفحة التالية
Icon