تفسير قوله تعالى: (أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً)
يعود الله ليعدد ويمتن على عباده بقدرته على كل شيء، فيقول تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: ٦٠].
يقول الله جل جلاله: أم من خلق السموات والأرض؟! هل الله أو تلك الأوثان؟! هل الله القادر على كل شيء، أم تلك الأصنام؟! قال تعالى: (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) أنزل علينا من السماء أمطاراً وغيثاً مدراراً فأنبت حدائق -جمع حديقة- ذات بهجة، أي: ذات جمال وذات منظر حسن، والحديقة: البستان المسور المحدق به السور، فإذا لم يكن له سور يحدق به كان بستاناً، والحديقة تكون مسورة عادة؛ لأنها أكثر أشجاراً وأكثر ثمرة وأكثر مياها وأكثر بهجة وجمالاً، ولذلك يحافظ عليها بوضع سور خلفها يحيط بها.
فمن الذي خلق السموات بعلوها، وأفلاكها، وبأنجمها السيارة، وبما فيها، وخلق الأرض بما عليها من جبال وأشجار وأنهار جاريات ونبات يعيش به الإنسان ويعيش به الطير ويعيش به الحيوان؟! من الذي أنزل هذه الأمطار فسقى بها وأنبت بها الحدائق والبساتين ذات البهجة وذات الجمال الذي يسر العين، ويسر القلب، ويبهج النفس.
قال تعالى: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ [النمل: ٦٠] فلا ينبغي لنا، وليس في قدرتنا ولا في طاقتنا أن ننبت هذه الأشجار التي في الأرض، ولا نستطيع أن ننبت نبتة واحدة، فنحن أعجز من ذلك وأضعف من ذلك، بل نحن ومالنا خلق الله، وكلنا فعل الله، وكلنا من قدر الله، وإذا وقف مدد الله للإنسان أصبح جماداً كما كان.
يقول تعالى: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ [النمل: ٦٠] فما كان لنا وما ينبغي لنا، ولا نستطيع أن ننبت شجر هذه الحدائق ذات البهجة والجمال والأشكال والألوان من ورود وزهور وثمار، فلا يفعل ذلك إلا الله، ولا يقدر عليه غيره.
ولكثرة ما في الأرض من ذلك يظن أصحابها أنهم انفردوا بها، وليس لهم خلق شيء، فالذبابة التي ضرب الله بها المثل لا نستطيع خلقها، وإن أخذت الذباب منا شيئاً عجزنا عن أن نستنقذه، وكما قال تعالى: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣].
قال تعالى: ﴿أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل: ٦٠].
أي: هل يوجد مع الله إله يعينه على هذا الخلق؟! وهل يوجد معه إله يستحق العبادة كما يستحقها الله؟! حاشا وكلا ومعاذ الله، ونبرأ إلى الله من كفر الكافرين، فلا إله بحق إلا الله الخالق الرازق، المعطي المانع، المحيي المميت جل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: ٦٠].
أي: بل هؤلاء المشركون قوم يعدلون بربهم غيره، فيجعلون له نظيراً، ويجعلون له نداً، ويجعلون له مثيلاً، تعالى الله عن ذلك ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، فلا شبيه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد جل جلاله وعلا مقامه.


الصفحة التالية
Icon