تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة)
قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ [الكهف: ٨٢].
قوله: (أراد ربك) تعم الثالثة والثانية والأولى، أي: فلست أنا المريد، ولست إلا آلة، ولست إلا مأموراً.
قوله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ﴾ [الكهف: ٨٢] هذان اليتيمان لم يبخلا، ولم يكونا يملكان من شيء؛ لأن أموالهما كانت تحت يد الوصي المشرف على أموالهما.
﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: ٨٢] كان أبوهما مؤمناً تقياً، ومن هنا نعلم أن الأبوة الصالحة ترجع بركتها على الأولاد والأسباط والأحفاد والذرية إلى قرون.
قالوا: بأن هذا الأب كان السابع، وهذا ورد ولا أستطيع أن أقطع به، ولم يكن في القرآن مذكوراً، لكن الجد يسمى أباً إلى السابع والسبعين، ونحن نقول: أبونا آدم وهو الجد الأعلى، فيمكن أن يكون الأب السابع، ويمكن أن يكون الأب المباشر، ولكن الذي قال: إنه الأب السابع مجموعة من الصحابة والتابعين، وهذا لا يغير شيئاً من سياق القرآن ومن نظم الآيات، فإذا كانت بركة الأبوة الصالحة أفادت الذرية السابعة فما بالك بالأبوة الأولى والثانية والثالثة.
ومعنى ذلك: أن الله يكرم الصالح في أولاده وفي أحفاده وفي أسباطه، فكيف إذا كان هؤلاء الأولاد والأسباط والأحفاد أبناء لمحمد صلى الله عليه وسلم؟! ولا ينكر هذا إلا غشوم أو جحود أو في نفسه شيء، فإذا كانت الأبوة الصالحة المطلقة أفادت البطن السابع، فكيف بالأبوة النبوية الرسولية الخاتمة، الأبوة التي هي سيدة الأبوات منذ كانت الدنيا وإلى يوم القيامة.
ولذلك في الحديث المتواتر الذي نص على تواتره جماعة من العلماء كـ ابن تيمية وابن القيم والمزي وابن كثير والذهبي وطوائف من الحفاظ والأئمة أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي آل بيتي، لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) أي: لن تفترق السلالة عن القرآن حتى يردا على النبي ﷺ الحوض، (فانظروا كيف تخلفوني فيهما)، وهو في أمهات كتب السنة.
وقوله: ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا﴾ [الكهف: ٨٢] هذا الكنز قال الأكثر: كان مالاً وعلماً، قالوا: كان لوحاً من ذهب مصمد، أي: غير مجوف، ومكتوب فيه حكم من الواجهتين، في إحدى الواجهتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك وما يشبه هذا من التسبيح والتحميد والتمجيد والتعظيم.
وكان في الوجه الثاني حكم أخرى في باب التوحيد.
لا شك أن أعظم الكنوز كنوز العلم، ثم كان مالاً؛ هذه القطعة من الذهب تسوى الكثير، ولرحمة الله تعالى بهذه الأبوة الصالحة رحم أسباطها وأحفادها، فأتى الخضر مع نبي الله موسى ليشرفا على إخراج هذا الكنز الذي كان تحت هذا الجدار ولا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه الغلامان الصغيران، لكن عندما وصل الخضر أصبحا مراهقين.
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ﴾ [الكهف: ٨٢] أي: تحت الجدار، ﴿كَنزٌ لَهُمَا﴾ [الكهف: ٨٢] جاء الخضر وجدد بناء الجدار، وأخذ الكنز ولم يره موسى، لأنه لو رآه موسى لما انتقد بما انتقد ولما عارض بما عارض، ولما قال له: ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ [الكهف: ٧٧].
لكن كان تحته كنز فأخذه الخضر وأعطاهما إياه.
وقوله: ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الكهف: ٨٢] أي: أراد الله ولست أنا الذي أردت، فأنا لا علم لي إنما الله الذي علمني وهو الذي أمرني، وأراد ربك الرحمة بهذين المسكينين، فأمرني أن أصنع ما صنعت لهما؛ رحمة بهما؛ ليأخذا حقوقهما رحمةً من ربك.
وكان هذان الطفلان قد بلغا أشدهما في الوقت الذي جاء الخضر فيه إلى هذا الجدار فأقامه، فهو هدمه ثم أعاد بناءه إلى أن صار قائماً مستقيماً وأخذ الكنز، ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ [الكهف: ٨٢] أي: يبلغا سن البلوغ، وأن يكونا عاقلين مدركين مع البلوغ.
وأن يحسنا التصرف في مالهما.
قال الخضر: (رحمة من ربك) أي: لم يكن ذلك إلا رحمة أرادها الله.
ثم قال: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢] أي: ما فعلت ذلك من تلقاء نفسي.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٨٢]، أي: هذا تأويل هذه القضايا الثلاث التي لم تستطع يا موسى أن تصبر عليها.


الصفحة التالية
Icon