تفسير قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)
قال الله جلت قدرته: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٨٨].
الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل سامع ولكل إنسان ولكل مسلم ولكل من يبلغه ويسمعه.
يقول تعالى: ((وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً))، ترى الجبال -أيها الإنسان المبلغ المكلّف المدعو إلى الإيمان برسالة الإسلام ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام- تظنها وتحسبها جامدة لا تتحرك، قائمة بمكانها وهي في نفس الوقت تجري جريان السحاب في الأجواء.
قالوا: يكون ذلك يوم القيامة عندما يُنفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض، فيحدث ذلك عند ذهاب الدنيا وقيام الساعة، يوم لا يبقى إلا وجهه، قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧].
قالوا: وهي في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ [طه: ١٠٥] تُنسف نسفاً فلا يبقى إلا القاع حيث لا يوجد هناك أمت ولا اعوجاج، هكذا قالوا، والسياق يتعلق بقيام الساعة وبهلاك الدنيا وموت الخلق وذهابهم كالعهن المنفوش، فكل جاء من العدم وينتهي إلى العدم، ولا يبقى إلا الله الواحد عندما يقول: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ))؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه بنفسه: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: ١٦].
قال تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٨٨] (صُنع) منصوب على الإغراء، أي: انظر صنع الله، أو أنه منصوب على المفعولية المطلقة، أي: صنع الله ذلك صنعاً.
يقول تعالى: ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) أتقن خلقه وأتقن وجوده وأتقن حياته وأتقن نظامه، فكل مخلوق من ملك وإنسان وجن وحيوان، وصامت وجامد، كل ذلك صُنع الله، وكل ذلك قد أتقنه جل جلاله.
قال تعالى: ((إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)) فالله جل جلاله هو الخبير والمطّلع على الضمائر وعلى الغيب، يعلم ما تُخفي الأنفس، ويعلم ما تُعلن، وهو الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض.
هذا تفسير السلف لهذه الآية، وكذلك قال ابن جرير شيخ المفسّرين القديم ومرجعهم، وكذلك قال القرطبي وابن العربي وابن عطية من المغاربة، وكذلك قال ابن كثير والبغوي من المشارقة، وقال ذلك كل من فسّر الآية الكريمة من السلف.