تفسير قوله تعالى: (نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق)
قوله: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ﴾ [القصص: ٣] كان هذا كالديباج؛ لما في داخل السورة من أحكام وفصول.
يقول تعالى مخاطباً نبينا عليه الصلاة والسلام: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٣] أي: نتلو عليك يا محمد، ونقرأ عليك وننزل عليك ونبيّن لك.
(مِنْ نَبَإِ) (من) للتبعيض أي: بعض أنباء وأخبار موسى نبي الله، أحد أولي العزم من الرسل، المنزلة عليه التوراة، من أنبياء بني إسرائيل.
(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) أي: تلك الأكاذيب والأضاليل التي يقصها اليهود والنصارى في كتبهم المحرفة وتوراتهم بعد تبديلها وتغييرها، وفي إنجيلهم بعد تبديله وتغييره، وفي كلام علمائهم وهم أكذب وأفجر الخلق، ومن أضلهم الله على علم، نحن سنتلو ونقص عليك ونملي عليك من أنباء هؤلاء وأخبارهم (بالحق) أي: بالصدق البيّن الذي لا شك فيه، ولا مين ولا تردد ولا احتمال.
((لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: ٣].
أي: الذي آمن بالقرآن وآمن بالمرسل إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو الذي سيؤمن بما يتلو ويقص القرآن، أما أولئك الكفرة الفجرة الذين لم يؤمنوا بالله في الأصل ولا بكتابه ولا بنبيه هؤلاء لا يؤمنون لا بقصص القرآن، ولا بأحكام القرآن، فهم كفروا بالأصل فكيف بما جاء بعد ذلك؟! ولذلك يخاطب الله هنا المؤمنين الذين سيصدقون ما يُقال لهم إذا آمنوا، فهو يتلو علينا ذلك لنأخذ الحكمة والعبرة والفائدة لما يستقبل حياتنا ومجتمعنا وأحكامنا، وقد ذُكرت قصة موسى وبني إسرائيل في القرآن كثيراً من المرات، فما الحكمة في ذلك؟ سبقنا في الديانة عيسى، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، بينه وبين نبينا عليه الصلاة والسلام ستة قرون وثلث قرن وسنوات، وليس بينه وبين نبينا رسالة ولا نبوة، وقبله سبق موسى وكان من أولي العزم، وهو الذي أُنزلت عليه التوراة، ثم أُنزل الإنجيل على عيسى، فالله يذكر لنا قصص بني إسرائيل من أتباع موسى وأتباع عيسى، وهو قد فضّلهم يوماً على العالمين، ومكّنهم في الأرض، وأرى فرعون وهامان منهما ما أراهم، ثم لُعنوا بعد ذلك وغُضب عليهم، وذلوا واستعبدوا، وأصبحوا أذل من شسع النعل، لم ذلك؟ لأنهم خرجوا عن أمر الله، وقتلوا الأنبياء، ونشروا الفواحش والفساد، وكانوا قساة القلوب.
ولا تغتر أيها المسلم بما يجري اليوم فليس هو إلا استدراجاً، فعن قريب وعن قليل تقشّع، فيعودون إلى السحق بالأقدام، وإلى الطرد من جميع ديار المسلمين، ولن تقوم لهم بعد ذلك قائمة؛ لأن القرآن الكريم حدثنا بذلك، وأعطاهم فرصتين وزمنين للإفساد في الأرض، وبعد الإفساد الثاني لن تقوم لهم قائمة، وسيكون هذا الإفساد استدراجاً للقضاء عليهم وتشريدهم وطردهم.
ولكن القرآن عندما يقص علينا أخبارهم يقول لنا: يا هؤلاء المسلمون الذين فضّلهم الله على كل البشر من اليهود والنصارى وغيرهم، وجميع الأمم السابقة، وجعل نبيهم أفضل وأكرم الأنبياء، ولا نبي بعده، ولا رسول بعده ودينه عالمي لكل الخلق في حين أن نبوة عيسى قومية مقصورة على بني إسرائيل.
قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (اختصصت بخمس: كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وبعثت إلى الناس عامّة) فالإسلام وحده هو الدين العالمي، وقد قلت: وأكّد هذا ما وجد في الإنجيل من قول الله تعالى نقلاً عن عيسى: إنما أُرسلت إلى بني إسرائيل خاصة، عيسى نفسه يقول: جئت إلى كباش هؤلاء اليهود ولم يرسل لغيرهم.
أكّد ذلك القرآن الكريم فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف: ٦] ليس رسولاً إلا لنبي إسرائيل، لم يرسل لعرب ولا أوروبيين، ولا لأمريكيين، ولا لأحد من الخلق إلا لبني إسرائيل، فلم يؤمر غيرهم بأن يكونوا أتباعه ولا أن يؤمنوا به، ولكن عندما جاء الإسلام نُسخت هذه الأديان، وانتهت نبوءات رسلهم، ثم هي كانت قد نُسخت وبدّلت وغيرت، بعد ذلك نسخت للإسلام، وأصبح بعد ذلك من لم يدخل الإسلام ولم يدن بالإسلام لا دين له؛ ولذلك يقول تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
وعيسى سينزل في آخر الدنيا من السماء، وسيكون من أتباع نبينا عليهما الصلاة والسلام، وما فعله ﷺ بأمر ربه ليلة الإسراء في المسجد الأقصى أعاده الله للمسلمين، وطرد منه القردة والخنازير وعبد الطاغوت من اليهود، حيث صلى إماماً بالأنبياء بأرواحهم، وما كانت تلك الإمامة إلا إشارة إلى أنه سيدهم وكبيرهم، والذين أُخذ عليهم العهد أن من أدرك الحياة المحمدية ليؤمنن به وليدينن بدينه ولينصرنه، ذاك أمر الله.