تفسير قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره)
عندما قال ذلك أبوهما لموسى: ﴿لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: ٢٥] وإذا بإحداهما تقول: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا﴾ [القصص: ٢٦].
أي: اقترحت إحداهما: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ [القصص: ٢٦].
خافتا أن يذهب عنهما ولا يخدمهما بعد ذلك، وليس في الدار شاب يشتغل ويرعى ويخدم ويسقي، ويقوم بالوالد وبالبنتين، فاقترحت إحداهما على الوالد، وكان هذا من ذكائها وفراستها (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ)، أي: خذه أجيراً ودعه يعمل عندك يسقي غنمك، ويخدم بيتك، ويقوم بدارك، ويكفيك مئونة أهلك، أما نحن فبنتان نعجز عن أن نقوم بما نضطر إليه من رعي وسقي.
(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ): أحسن صفة في الأجير والخادم أن يكون قوياً وأميناً.
وإذا بالوالد يسأل هذه البنت التي عرفت الرجل ووصفته بالقوة والأمانة فقال لها: ومن أين عرفت قوته؟ ومن أين عرفت أمانته؟ قالت: يا أبت عندما أراد أن يسقي لنا دخل في الجموع من الرجال فتفرقعوا وفروا من أمامه وعجزوا أن يجادلوه، وجاء إلى صخرة لا يحملها إلا العشرون من الرجال فأخذها بيد واحدة ورماها بعيداً فهذه قوته، وسقى أغنامنا بأسرع وقت.
قال: والأمانة؟ قالت: عندما أرسلتني إليه وأخذت أقوده لك تقدّمته وإذا بالرياح تلعب بثوبي، فقال لي: يا أمة الله! تعالي خلفي وأشيري إلي بالطريق بصوتكِ أو بأصبعكِ وهذه أمانة ومروءة وعفّة وشهامة.
إذ ذاك اطمأن شعيب واستراحت نفسه، وسُر لاقتراح هذه البنت وأراد من يريحه ويريح بنتيه، وأراد أن يزوج البنتين كذلك ويستريح من مشكلتهما، فيكون قد ضرب عصفورين بحجر، فزوج موسى إحدى البنتين، وأتى بمن يخدمه مع أمانة وقوة، وماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟ قال كثيرون: هو شعيب نبي الله الذي ذُكر في القرآن، وأنه أُرسل لأهل مدين، ولكن هذا القول أنكره ابن تيمية وجهّل من قاله، وقال المحققون من المفسّرين مثل قول ابن تيمية ومن بعده - والأمر كما قالوا - شعيب كان بعد لوط بقليل، وموسى كان بعد ذلك بقرون، ولذلك قصص الأنبياء في القرآن تذكر أولاً قصة آدم فقصة نوح فقصة هود فقصة صالح فقصة لوط، ولوط ابن أخي إبراهيم وفي عصره، تنبأ في عصره وكان ما كان من تدمير أرض سدوم في فلسطين، وجعل عاليها سافلها، لما اختصوا به من فواحش ومنكرات والجري وراء الذكران دون النساء، بلية لم تسبق أن كانت قبلهم، كما قص الله تفاصيل ذلك ومضى أكثر من مرة.
أما موسى فقد جاء بعدهم بأكثر من أربعمائة عام وتزيد، فادعى بعضهم أن شعيباً بقي حياً هذه المدة الطويلة، وهذه دعوى لا دليل عليها ولا برهان لها، والله هنا ذكر البنتين ولم يذكر أن شعيباً أبوهما، وذكر من قبل شعيباً ولم يذكر أنه صهر موسى، ولا صاحب موسى، ولا شيء من ذلك؛ ولذلك ابن تيمية عندما يذكر ذلك يقول: لا كما تقول الجهلة إن شعيباً نبي الله هو صاحب موسى وهو والد البنتين في قصة فرار موسى من فرعون وطغيانه وزواجه بإحدى بنتيه، والأمر كما قال.
وقيل: هو ابن أخي شعيب وأيضاً هناك كلام آخر.
وقيل: اسمه ترتون، وقالوا أسماء أخرى.
وعلى كل اعتبار فالقرآن لم يذكر شيئاً من هذا، وفي السنة النبوية لم يصح شيء من هذا، يبقى هذا كلاماً ذُكر من أخبار الإسرائيليات، ولا ثقة بها ولا دليل لقبولها، نقول البنتان وأبوهما ولا نزيد (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) خذه أجيراً، واستخدمه عندك خادماً بأجرة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ).


الصفحة التالية
Icon