تفسير قوله تعالى: (قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين)
وإذا بموسى يستجيب بسرعة ويقول: ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ [القصص: ٢٨] أي: قد استجبت وقبلت، فالأمر بيني وبينك في أن أتم ثمان سنين كما طلبت أو أزيد عليها سنتين، وسأنتظر عون الله وأنظر ما يفعل الله، ولكل إرادة ويفعل الله ما يشاء.
قوله: ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ [القصص: ٢٨] أي: فلا معاتبة ولا محاسبة إن قضيت الثماني حجج فذاك الشرط، وإن زدت سنتين فأصبحت عشراً فذلك فضل مني وليس شرطاً، أيّما الأجلين: أجل الثماني سنوات أو العشر سنوات قوله: (قَضَيْتُ) أي: أتممت.
(فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ) أي: لا يعتدى عليّ بمساءلة ولا بمتابعة ولا بمحاسبة، ثم أشهد الله على النكاح فقال: ﴿وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [القصص: ٢٨] أي: الله وكيل عليك في تزويجك إحدى ابنتيك لي، والله وكيل علي أني قبلت واستجبت لخدمتك واستئجارك لي على الثمان سنين أو العشر؛ هذا التزويج والنكاح في الآية أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم من أئمة الاجتهاد تنازعوا في أحكامه نزاعاً طويلاً عريضاً.
هل يصح أن يأتي إنسان فيزوج إنساناً بهذه الطريقة؟ يأتي ببناته ويقول زوجتك بإحداهن، أليس من الضروري تعيين إحداهن ليقع الزواج عليها؟ وهل يمكن أن يتم الاختيار في النكاح ويتم العقد بذلك؟ قالوا جميعاً: لا يتم ذلك، وإن كان يوجد من صنعه وهو أبو البنتين فشريعة من قبلنا ليست شريعة لنا، ولا شرع لنا إلا ما أقرّه الشرع وأكده القرآن، وأكده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم قالوا: المهر يكون أجراً للبنت أو لأبيها؟ ماذا استفادت البنت؟ ولا بد من المهر للبنت، فالأجرة كانت للأب، وهو سيكون أجيراً للأب، أيصح هذا أو لا يصح؟ وقالوا لم يكن في هذا النكاح شهود، بل كان التزويج بين والد البنتين وبين موسى، لم يحضر في ذلك شهود فيشهدون عليه ويؤكدونه، وإنما أشهدوا الله على ذلك، وجعلوه وكيلاً فهل يصح هذا في شريعة الإسلام؟ نبتدئ بالمؤخرة، قال الشافعي: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يتم زواج بغير عدلين، وقال مالك: يجوز أن يكون ذلك كما فعل والد البنتين؛ لأن هذه معاوضة، والمعاوضة يكفي فيها التسليم فلا حاجة للإشهاد.
لم تذكر الآية هل استشار البنت أم زوجها جبراً؟! وظاهر الآية أنه زوجها بلا اختيار منها ولا موافقة منها؟ قال مالك والشافعي: يجوز تزويج البنت جبراً ولو قالت: لست أرضى، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (البكر تستأمر وإذنها صماتها، والثيب تُعرب عن نفسها) فلا بد من إذن البنات الأبكار التي لم يسبق لهن زواج، يقال لها: فلان يخطبكِ وصفته كذا وكذا؟ ويقال لها: سكوتك رضاً إن أنتِ سكت اعتبرنا سكوتك موافقة، فإن سكتت فالزواج قد تم، وإن عارضت فلا زواج.
والنبي عليه الصلاة والسلام فسخ نكاح ابنة من الصحابيات أجبرها أبوها على الزواج من شخص بغير رضاها؛ فكان ذلك توكيداً لهذا الحكم مع القول العمل، لكن قالوا: هذا في الصغيرة غير البالغة؛ لأن غير البالغة لا تُعرب ولا رأي لها، والموضوع الكلام فيه طويل كل هذا الذي قالوا لا موضوع له ولا معنى، أولاً: الله قص علينا قصتهما وليست قصة كما تحكى الروايات، وإنما أعطانا منها العبرة، فذكر منها ما نحتاج إليه، وألغى الباقي، وفي أول السور ماذا قال تعالى؟ ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾ [القصص: ٣] أي: من بعض قصصه، ومن بعض أخباره، لا أن يحكي لنا القرآن كل الحكايات، ذكر القرآن للقصص لا لأنها قصص، ولكن لأخذ العبرة منها، وهنا لا حاجة إلى التفاصيل ولا إلى ذكر اسم البنتين، حتى سموهما صفوراً وصفراء وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، وسموا الأب عدة أسماء لا حاجة لذلك.
فنقول: ليس هذا الفعل من والد البنتين يعد تزويجاً، وإنما هذا عرض، ثم ماذا حدث بعد ذلك لم يذكره الله، وإنما ذكر نعمته وإفضاله وتمننه على موسى أنه لم يتركه، وأنه آواه وهيأ له داراً وبيتاً، وهيأ له زواجاً، وهيأ له بيتاً سيكون سيده بعد هذا الرجل العجوز، أما التفاصيل فلم يذكرها، وهنا العبرة في تحقيق وعد الله لأم موسى: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧].
ثم هذا الكلام الذي دار بينهما إنما هو عرض، وليس معناه التزويج، فلو جاء إنسان إلى آخر في لغة إسلامنا وشريعتنا وقال: أنا أريد أن أزوجك ابنتي، هل يعتبر هذا زواجاً؟ هل إذا أشهد عليه يعتبر زواجاً؟ هي إرادة لكن هل نفذ هذه الإرادة أم لم ينفّذها؟ هذا ليس إلا عرضاً، عرض والد البنتين على موسى أن يزوجه إحدى البنتين، وبعد موافقة موسى واختياره لإحداهما سيكون التزويج إذ ذاك بالعين، فليس هناك تزويج بالاختيار، وليس هناك تزويج بلا شهود، وليس هناك تزويج بلا مهر، كل ما ذكر الله أنه ختنه، أما كونه أعطى مهر البنت أو لم يعط فلم يذكر القرآن هذا، والحكم بشيء لم يذكر افتئات على القرآن وما جاء فيه.
وعرض البنت على الرجل الصالح هي سنة المرسلين والسلف الصالحين، وقد عرض على رسول الله ﷺ نساء أن يتزوجنه فلم يوبّخهن، ولم يلمهن، ولم يتزوجهن.
وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة عندما تأيّمت من زوجها على أبي بكر فسكت، ثم عرضها على عثمان فأباها وامتنع، فلم يكن العرض تزويجاً، وإلا لأصبحت زوجة لـ عثمان، فتبيّن بعد أن أبا بكر لم يجب لأنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يخطب من عمر ابنته الأيّم، وبعد الزواج قال هذا لـ عمر قال: يا عمر! قد أخبرني رسول الله برغبته بالتزويج ببنتك، وما كنت لأقول ذلك فأفشي سر رسول الله، ولو تركها لأخذتها.
أما الزواج بالأجرة فنعم هو وارد في الإسلام، لكن الأجرة للزوجة لا لأبيها، الرجل الذي حضر مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام مع المرأة التي عرضت نفسها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فأباها، كان جالساً بمحضره رجل، فلما رأى أن النبي عليه الصلاة والسلام رفضها قال: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها قال: (ما معك؟) قال: لا شيء والقصة لها كلام، وليس هذا موضعها، وموضع الشاهد أنه بعد أن عجز حتى عن خاتم من حديد قال: (ما معك من القرآن؟) قال: كذا وكذا وعدَّ سوراً من سور القرآن الصغيرة: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل هو الله أحد) و (إنا أعطيناك الكوثر) قال: (زوجتكها بما معك من القرآن) أي: يكون مستأجراً لزوجته مقابل تعليمه لها هذه السور.
فإذاً: هو أجير للمرأة، وهنا في هذه القصة هو أجير لأبيها، والمهور لا يأخذها الآباء ولا الأولياء، وهي منحة للبنت نفسها، فكيف يكون المهر بالأجرة للغير؟ نقول: كذلك هذا شيء والتزويج شيء آخر، ولكن أبا البنتين استأجر موسى أو عرض عليه استئجار واشترط: على أن تأجرني ثماني حجج، لن أزوجك إن وافقت إلا بعد أن تخدمني، هذه الخدمة وهو يريد أن يساكنه، ماذا حدث من بعد؟ ماذا أعطاه من مهر؟ أخذ الكبيرة أو أخذ الصغيرة؟ أيأخذهما معاً؟ لا يمكن، وهو لم يعرضهما عليه معاً: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ [القصص: ٢٧] الله لم يقل لنا أنه زوجه كلتيهما! وهذا لا يكون، لأن الأختين لا يجتمعان في عقد واحد، ولا في عصمة واحدة؛ إذاً: لا يمكن الاستدلال بفعل والد البنتين من ختن موسى بحال من الأحوال؛ فهذا الذي ذكره الله عرض وليس تزويجاً.
ووافق موسى على العرض، هذا كل ما حدث، لكن هل أخذ الكبيرة أم الصغيرة؟ القرآن لم يذكره، ولا حاجة لذلك، إذ الحكمة بما أكرم الله به موسى لا في كونه أخذ صغيرة أو كبيرة، على أنه سئل رسول الله ﷺ ما الذي فعله موسى مع ختنه؟ هل خدمه ثمان سنين أو عشراً؟ قال صلى الله عليه وسلم: (آجره أوفاهما وأكملهما) أي: عشر سنوات.
ثم سأله: أتزوج الصغرى أم الكبرى؟ قال: (الصغرى) سألوه صلى الله عليه وسلم، وهذا عن أبي ذر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة، من التي أرسلها أبوها إليه عندما جاءته تمشي على استحياء وتقول له: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ [القصص: ٢٥]؟ في هذه الحالة قالوا: إنها الصغيرة هي التي أرسلها، فرأته فأُعجبت به ووصفته بالقوة والأمانة، ورأى هو منها طاعة وحياءً، فهو تزوج بعد المعرفة والرؤية، النبي ﷺ يقول ذلك، والقرآن لم يقله، ولو رواه أحد غير رسول الله عليه الصلاة والسلام لاعتبرناه من الإسرائيليات، على أن الأسانيد في ذلك يصححها البعض، ويطعن فيها البعض.
يقول ربنا جل جلاله حاكياً عن موسى: ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ [القصص: ٢٨] أي: هذا النكاح بالثمان سنين والعشر (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ) أي الأجلين، قالوا: (ما) صلة، وهي في الحقيقة تأكيد لهذا (أَيَّمَا الأَجَلَيْن) أي: أجل الثمانية والعشرة (قَضَيْتُ) أي: آجرت نفسي لك (فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ) أي: لا معاتبة، ولا محاسبة، ولا مسئولية، فالثمان لا بد منها، والعشر إفضال وتكرّم، وأنا سأترك هذا من بعد ولا أعد بشيء.
(وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) وكّل الله موسى لا في الزواج وإنما في التأجير؛ لأن الكلام الذي تكلم به موسى هو عن التأجير، وإن كان التأجير شرطاً للنكاح، الله وكيل على أن أفعل معك كل ما أستطيعه، وسأخدمك خدمتي لأبي، وقد وفّى موسى وأحسن.