تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى)
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: ٤٣].
بعد ذلك أنزل الله على موسى التوراة فيها الهدى والنور، وفيها التوحيد، وفيها ما في الكتب السماوية السابقة، فهذه هي صفة التوراة عندما نزلت، ولكنّ العبرانيين أتباع موسى بعد ذلك غيروا وبدلوا وحرفوا، فالتوراة التي بين أيدينا والتي كانت منذ عصر الوحي المحمدي قام علماؤهم وكبراؤهم فبدلوا فيها وغيروا وحرفوا وزادوا ونقصوا، وأدخلوا فيها الشرك بعد ذلك، فلقد قال تعالى عنهم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
فزعموا أنهم أبناء الله، فلم يشركوا بالله واحداً بل أشركوا كل البشر؛ لأن ابن الإله إله إن صح أنه ابن ولا ابن لله، ولا يليق بالله سبحانه أن يكون له ابن، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ١ - ٣].
ولكن لشركهم قالوا ذلك، والتوراة بين أيدينا فيها الطعن في جلال الله، وفيها اتهام الأنبياء بالكبائر: بالسكر وبالزنا وبالفساد، وبإتيان المحارم، وفيها ما لم يكد يخطر على بال.
ومن هنا كان اليهودي في دمه وفي عرقه وفي نشأته وفي بيئته عنصراً للفساد، فهم يدينون بشتم الله، ويدينون بقذف الأنبياء، ويدينون بسفك الدماء، ويدينون بنشر الفاحشة ونشر السوء بين البشر، ولذلك هؤلاء الذين يسعون من الحكام إلى فتح الحدود معهم، إنما يزيدون شعوبهم فساداً وفاحشة وكفراً وبلاءً، فإن هذا لبلاء مبين، فأرجو الله تعالى أن يزيله وألا يتمه، وأن يخيب آراءهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم جميعاً هم وأنصارهم ومن يريد أن يفعل ذلك منهم.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى﴾ [القصص: ٤٣].
أرسل الله موسى بالتوراة من بعد قرون سابقة عنه هلكت وبادت وانتهت، والقرون هم قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم إبراهيم، وقد قص الله علينا قصصهم.
والقرن هو المائة من السنين، والقرن هو الجيل بعد الجيل.
وموسى جاء متأخراً بعد ذلك، وقد سبقه هؤلاء كلهم، فـ شعيب أرسل إلى مدين، وإبراهيم إلى نمرود، ولوط إلى أهل سدوم في فلسطين، وهود وصالح إلى عاد وثمود، ونوح إلى البشرية، وكانت لا تزال قريبة العهد بآدم، ليس بينها وبين آدم إلا ألف عام، ولبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فقص الله علينا ما قص مما مضى جميعه بعد هذه القرون الطويلة، وهذه الأجيال المتتابعة التي أهلكها الله وذهبت في أمس الغابر.
وأرسل الله بعد ذلك موسى، وسبقه من بني إسرائيل يوسف وأيوب ويعقوب وإسحاق، بل يعقوب هو إسرائيل وهو كبير أنبياء بني إسرائيل، أما إبراهيم وإن كان أباً لهم فهو كذلك أبو العرب الأول، وهو الذي مكن للعرب هنا، وأتى بولده إسماعيل وأسكنه هنا في هذه الأرض المقدسة، فكان إسماعيل نبي الله ورسول الله الجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام، والجد العالي لجميع عرب اليوم، أما الذين كانوا قبله فيسمون بلغة الأنساب والأحساب: العرب العاربة، وهؤلاء انتهوا ولم يبق منهم أحد، ولذلك الله عندما ذكر إبراهيم قال: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨] والخطاب للعرب، فهو أبو العرب، وهم نسله، ولذلك دعا إبراهيم ربه لإسماعيل أن يجعل رسولاً من سلالته، ولذلك كان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وأنا بشرى أخي عيسى، هو الذي بشر الناس باسمي، وقال لهم في الإنجيل: يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد) ومحمد وأحمد اسمان كريمان للكريم خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.


الصفحة التالية
Icon