تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور)
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: ٤٦].
أي: كذلك لم تكن مع موسى عندما جاء يبحث عن هذه النار التي رآها وهو لا يريد منها إلا جذوة أو خبراً من أي أحد من الناس يهديه الطريق ويعرفه كيف يذهب في مسالك الأرض، ولم تكن معه عندما نودي من الشجرة المباركة: ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [القصص: ٣٠].
فلم تكن بجانب الطور إذ نادينا وقلنا: يا موسى! ومع ذلك علمت ما لم يعلم غيرك ممن مضى أو حضر، ومن باب أولى ممن يأتي إذ لا نبي بعده ولا رسول.
وهذا تأكيد لقوله في الآية الأولى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: ٤٤] أي: بالجانب الغربي من الشجرة المباركة من البقعة المقدسة، أي: لم تكن بجانب الطور وجبل سيناء عندما نادى الله موسى وكلمه، وقال: ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [القصص: ٣٠] ومع ذلك علمت ذلك وتحققته وأمرت بمعرفته، وذلك لتعرف به الناس وتصحح أغاليطهم التي حرفوها وأتوا بها منحرفة في التوراة والإنجيل والزبور.
قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [القصص: ٤٦].
رحمة: مفعول مطلق، أي: ولكن رحمك ربك رحمة.
﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: ٤٦] فقد أرسلناك وبعثناك نذيراً لقوم لا يعرفون من قبل نذيراً، ولم يرسل إليهم رسول، ولم يبعث إليهم هاد، ولم يأتهم كتاب، فقد جئتهم على قدر يا محمد! فرحمه الله وأكرمه بالوحي وبالرسالة وبختم الأنبياء والرسل، وأرسل لقوم ابتداءً، وإلا فهو قد أرسل لكل البشر.
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أرسلت إلى الأبيض والأحمر، لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
وليس هذا موضع نزاع من أحد، ومن هنا كانت القاديانية وكل ملة وفرقة تزعم أن لها نبياً بعد محمد ﷺ هي أديان كاذبة باطلة، ومعتقد ذلك كافر، فإن كان قبل مسلماً فقد ارتد، فإما أن يعود إلى الإسلام، وإما أن يقتل بسيف الإسلام.
والله أرسل النبي عليه الصلاة والسلام على ثلاث مراحل، فقيل له أولاً: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤] فأنذر عشيرته الأقربين، وأخذ ينادي: يا صفية بنت عبد المطلب! يا فاطمة بنت محمد! يا فلان! يا فلانة! وقال لهم: إني نذير من الله لكم بين يدي عذاب أليم.
ثم بعد ذلك دعا الأبيض والأسود، ودعا المشرك واليهودي والنصراني، ودعا كفرة الأرض جميعاً بكل أشكالهم، ومن كان في الأصل صاحب كتاب ثم أشرك فحرف وبدل، ومن لم يكن له كتاب أو كان يؤمن بخزعبلات من الاعتقاد في الحجارة وفي البشر، وقد كان بعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد عزيراً والمسيح، وبعضهم يعبد الشيطان، وبعضهم يعبد الأحجار، وبعضهم يعبد غير هؤلاء، فكل هؤلاء كفرة مشركون، وكلهم إما أن يدخلوا الإسلام، وإما أن يجاهدوا، بل يجب جهادهم حتى يؤمنوا، ومن لم يفعل يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر.
قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: ٤٦] أي: لتنذر وتدعو قوماً لم يرسل لهم قبلك نذير، وهكذا كانت الرسالة في الشهور الأولى، ثم عمت، وشملت الشرقي والغربي، والكتابي والوثني والمشارق والمغارب، وجميع أمم الدنيا، وقال الله له: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، أي: لعلهم يتذكرون وبرحمة من ربك أرسلك نذيراً إلى العرب الذين لم يرسل لهم قبلك نذير ولا رسول ولا كتاب؛ لعلهم يتذكرون ويذكرون أن هذه نعمة من الله لم ينعم بها على أحد قبلهم، إذ الأديان قبلهم كانت قومية خاصة بالأقوام.
وأما الرسالة التي أرسل بها نبينا ﷺ فهي رسالة شاملة عامة، تعم كل الكون الجن والإنس.


الصفحة التالية
Icon