تفسير قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين)
قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ [القصص: ٥٤].
فهؤلاء الذين آمنوا بالقرآن وبالمنزل عليه نبينا عليه الصلاة والسلام قبل بروزه وبما جاء به كانوا في حقيقتهم قد آمنوا بكتابهم، وكتابهم اشتمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبالقرآن، ولذلك قالوا: كنا من قبله مسلمين، أي: قبل ظهور القرآن وظهور نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن التوراة والإنجيل بشرا به.
ولذلك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى).
وعندما بشر الأقوام به قال: يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد، ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وهي صفات ونعوت لا تنطبق إلا على نبينا عليه الصلاة والسلام، وتلك الشدائد والحديد والأغلال الذي كان في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، أزيل ورفع كله، وجاء الإسلام بالجسد والروح، وجاء بالمادة كما جاء بالروح، وقال لنا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: ٣٢].
وعلمنا أن نقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١]، فلم يحرم دنيا، ولكنه جمع لنا بين الدين والدنيا، وأمرنا أن نطلبهما معاً، بما لا يفسد خلقاً ولا ديناً، ولا يهتك عرضاً، ولا يأكل مالاً، والدين لا بد منه، وهو معنا، ففي الصباح وفي الزوال وفي العصر وفي المغرب وفي العشاء نصلي لله، ونناجيه ونسجد بين يديه، ونخاطبه في الصلاة خطاب المفرد الذي زالت بيننا وبينه الكلف، فنقول له: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، ونقول له: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦].
وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من السجود، فقمن أن يستجاب لكم).
فأقرب حالة بين العبد ومولاه هو هذا السجود، الذي نضع فيه الجباه والأنوف والركب والكفين ذليلة لله، وخضوعاً وتوحيداً له، ولا يليق أن يكون شيء من ذلك لأحد من الخلق، لا لنبي مرسل ولا لصحابي ولا تابعي.
ولما أراد معاذ بن جبل أن يسجد للنبي ﷺ حيث رأى الروم تسجد لأباطرتهم منعه وقال: (لا يجوز السجود إلا الله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها)، فلم يأمره ولم يأذن له.
وقال: (لو كنت آمراًَ لأمرت المرأة)، ولو حرف امتناع لامتناع، فهو لم يأمر وبالتالي فلا سجود، وهكذا شريعتنا جاءت بالتوحيد الخالص وبالعبادة الخالصة لله، التي لا تجوز أن تكون لعبد بشراً كان أو إنساً أو جناً.
قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [القصص: ٥٤].
(أولئك) أي: الطائفة من أهل الكتاب التي جاءت إلى النبي ﷺ في المدينة المنورة ودخلت عليه إلى مكة المكرمة - والسورة مكية - فجاءت إلى مكة فسمعت الحق والوحي وكلام الله وبيان رسول الله عليه الصلاة والسلام، وآمنت بمجرد السماع، ودمعت عيناها، وفاض قلبها إيماناً ورحمة، فأخبروا النبي عليه الصلاة والسلام: إننا قبل لقائك كنا مؤمنين بك؛ لأن كتبنا التوراة والإنجيل بشرت بك ووصفتك وذكرتك، كما جاء في الكتاب المرسل إليك، فنحن قبل ذلك كنا مسلمين ومؤمنين، فقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [القصص: ٥٤] المرة الأولى لإيمانهم بكتبهم ودينهم السابق، والمرة الثانية لإيمانهم بالنبي اللاحق صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي الصحيحين قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: كتابي آمن فهو يؤجر لإيمانه بكتابه ونبيه السابق، ويؤجر لإيمانه بي وبالقرآن الكريم وبالإسلام، وعبد عبد ربه وأطاع سيده يؤجر مرتين، لعبادته لله، ولطاعته لسيده)، حتى لقد قال أبو هريرة: والله لولا أمي وبرها، ولولا الجهاد وأجره، ولولا الحج وكون الإنسان يخرج منه كيوم ولدته أمه، لعبدت نفسي ولتمنيت أن أكون عبداً؛ لأوجر مرتين، ولكنه لم يفعل؛ لأنه يريد أن يبر بأمه وكان باراً بها، ويريد الحج ويريد ويريد.
قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل كانت له أمة فعلمها وأدبها وغذاها وأحسن تربيتها، ثم أعتقها وتزوجها)، فله أجر على كونه أعتقها وأدبها ورباها، وله الأجر الثاني على كونه بعد ذلك لم يتركها سبهللاً ضائعة، فتزوجها وصانها وحفظها.
قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ [القصص: ٥٤]، صبروا على الدين الأول بما فيه من شدة وبلوى وأغلال وصعوبة، وصبروا على الإيمان بالدين الجديد من جهاد وبذل روح وعطاء وزكاة واجبة ومستحبة ونفقة واجبة، فهم مأجورون أجرين؛ لأنهم صبروا مرتين على الدين القديم والجديد.
قال تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [القصص: ٥٤] أي: يدفعون، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، أي: ادفعوا الحدود.
قال تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد: ٢٢]، أي: يدفعون بالحسنة فيفعلونها ويقومون بها ويمحون السيئة والمعصية السابقة والشرك السابق، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، أي: إن ارتكبت السيئة عمداً أو جهلاً فحتى تتوب ويغفر لك فأسرع بحسنة بعدها، فعسى تلك الحسنة أن تمحو السيئة، وخالق الناس بخلق حسن، أي: كن معهم خلوقاً ومهذباً ومتحملاً.
قال تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [القصص: ٥٤]، فينفقون من أموالهم فرائض وزكوات ونفقات وإحساناًً وصدقات.