سبب نزول قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)
هذه الآية كان سبب نزولها عم النبي عليه الصلاة والسلام أبا طالب، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فقد كان أبو طالب شديد الحب للنبي عليه الصلاة والسلام وشديد الخدمة له مدة سنوات النبوءة في مكة المكرمة، وهي اثنتا عشرة سنة وأشهر، كان مع النبي عليه الصلاة والسلام المنافح والمدافع والحريص على حياته وعلى ألا يؤذيه أحد من كفار قريش، وبذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام محفوظاً من كفار قريش حرمة لعمه أبي طالب الذي بقي على دينهم، وطالما أشاد بالنبي في قصائد بليغات، هي من عيون الشعر ومن عيون اللغة تدرس في المدارس والجامعات، ويتعلم منها البلاغة والفصاحة ومفردات اللغة العربية وجملها، ومقام النبي ﷺ حتى عند من لم يسلم بعد.
وكان النبي ﷺ حريصاً على أن يسلم عمُّه ويهتدي، ولطالما دعاه وألح عليه، وأبو طالب يأبى أو لا يجيب، إلى أن احتضر أبو طالب فدخل عليه ابن أخيه صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها يوم القيامة عند الله) أي: يشهد له بأنه موحد وبأنه مات مسلماً، وكان بحضرته الشيطان المفسد الخبيث أبو جهل، وكان عنده كذلك عبد الله بن أمية بن المغيرة وكلاهما من أعداء الإسلام وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أكل الحقد قلوبهم والعداوة نفوسهم.
فعندما أخذ يقول هذا لـ أبي طالب، أخذا يقولان له: يا أبا طالب! أتتبع دين ابن أخيك أتترك دينك ودين آبائك أتترك دين قريش؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول له في حرقة وألم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله يوم القيامة)، وإذا بآخر كلمة يقولها أبو طالب: يا محمد! والله لولا أن تقول قريش أني قلتها جزعاً من الموت لأقررت بها عينك، ومات.
وإذا بالنبي يقول له: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله في شأنه: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى﴾ [التوبة: ١١٣]، فأوقف الاستغفار، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله ما شاء فعل، ثم نزل قوله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] والقصة في صحيح البخاري ومسلم، ولولا قداسة الصحيحين وثقة رجالهم لحاولنا البحث في الأسانيد، ولكن البخاري له جلالته، ولـ مسلم كذلك جلالته، ورجال أسانيدهما قد تجاوزا العقبة ثقةً وعدالةً وضبطاً وإيماناً ودعوةً إلى الله، فلو حاولنا أن نطعن في أسانيدها بلا دليل ولا برهان لكنا كبعض الفرق الضالة؛ لأننا إذا حاولنا أن نهدم البخاري ومسلم لتوصلنا بذلك للقرآن، ولا يفعل ذلك مسلم، ولكننا نعيد ونقول ما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦].
توفي أبو طالب في السنة الثامنة من البعثة النبوية، وفي نفس السنة كذلك توفيت أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها، فاشتد حزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، اشتد حزنه ثلاث مرات: مرتين على أبي طالب، ومرة على خديجة، وسمى هذا العام عام الحزن؛ مرتين: على أبي طالب وعلى موته، وكان باراً به، وقد نشأ في بيته وفي حضانته، وكان الأب الثاني له بعد أبيه عبد الله، وجده الثاني بعد جده عبد المطلب براً وعنايةً وتنشئةً وعطفاً واهتماماً.
ثم بعد أن دعاه للإسلام لم يسلم، ولكنه كان باراً به حريصاً على راحته، ينافح عنه ويدافع عنه، ولما قاطعته قريش ثلاث سنوات كان أبو طالب مع الصباح والمساء يأبى هجرانه والابتعاد عنه، ويأبى إلا أن يدافع عنه، فحزن لموته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عمه، والعم: صنو الأب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وزاد حزنه أكثر حيث لم يهتد للإسلام، ولم يقل بالكلمة التي أمر بها الخلق كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكان حب أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام ليس حباً شرعياً، ولكن كان حباً طبعياً، كما يحب الإنسان ابنه وابن أخيه، والبار به وتلميذه ومحبه والحريص على خدمته، وهذا لا يكفي، إذ لابد أن يكون حب رسول الله ﷺ في الدرجة الأولى.
ولذلك نحن أيضاً نحزن لحزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك، وأكد هذا مرة أخرى، إذ سئل عليه الصلاة والسلام فقيل له: حب أبي طالب لك وخدمته لك ومنافحته عنك أتنفعه يوم القيامة؟ قال: (نعم، هو الآن في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ولولا ذلك لكان في قعر النار)، ومعنى هذا: أنه وإن خفف عنه فهو في النار.
ولذلك يقول ربنا جل جلاله: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
ويقول جل جلاله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، ومجال القول ضيق أمام الأدلة والنصوص.