تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: ٥٧] وقرئت: (تجبى إليه) فهي قراءتان سبعيتان متواترتان، قال كفار مكة -والسورة مكية- كنا نؤمن بك يا محمد! ونحن نعلم أنك جئت بالحق ولم نجرب عليك كذباً حتى في شئون الدنيا، فلا يمكن أن تكذب على ربك، ولكن إيماننا بك ليس فيه مصلحة لنا.
وهكذا تقول العقول السخيفة الضالة، يقولون ما لا يعقلون وما لا يفهمون، فقد خافوا أن يطردوا من مكة وهو خوف لا محل له وكذب وبهتان، ولم يخافوا لعنة الله وغضبه، ولم يخافوا خلودهم في النار، ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص: ٥٧] أي: إن نؤمن بدينك ونتبع دعوتك ونقل قولك نتخطف من أرضنا.
وقولهم: (مَعَكَ)، يعني: أنهم على هدى، ولكنهم تركوا هداية محمد، وهذا من تمام السخافات والضلالات.
قولهم: (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) أي: نخطف ونخرج ونطرد وتحتل بلادنا، ومعنى الذي يقولون: أن جميع جزيرة العرب والعالم كله لن يؤمنوا بك ولن يصدقوك ولن يعتبروك نبياً ولن يعتبروا ما جئت به كتاباً لله وكلاماً له، فنحن لو تحدينا العالم جميعاً وآمنا بك لقاتلونا عن قوس واحدة، ولاختطفونا من أرضنا وأخرجونا من بلادنا ونحن أعجز من أن نقاتل جميع العرب، بل جميع الناس في الأرض، فالله كذبهم وسخف عقولهم فقال: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص: ٥٧].
فهؤلاء في الوقت الذين يقولون لك ذلك مكنا لهم، أي: أسكناهم في مكة، وهي الحرم الذي يحرم به السفه والجرم والسرقة والاختطاف والإيذاء، وكان هذا في أيام الجاهلية، فجميع العرب تحترم مكة وتحترم سكانها، فلا سرقة فيها ولا فساد، ولا أكل مال بباطل، فكيف يدعون هذا؟ وهل يكونون آمنين وهم على جهالة وكفر بالله وضلال عن دينه، حتى إذا وحدوا وأسلموا واهتدوا ينقلب الأمان خوفاً، وينقلب الحرم أرضاً مفتوحةً لكل غاز؟ وهذا الكذب بعينه.
فقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ﴾ [القصص: ٥٧] أي: نجعلهم متمكنين من مكة، سكاناً وحكاماً وسادة وقادة، وبذلك هم سادة العرب وحكامهم، والمرجع لهم جميعهم، فكيف مع هذا يدعون أنهم يمكن أن يختطفوا أو يهجم على مدينتهم أو تحتل أرضهم؟ فقوله: (أَوَلَمْ) استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، ينكر الله عليهم دعواهم أنهم لم يؤمنوا خوفاً من أن تهجم عليهم العرب ويختطفوهم ويسرعوا بالقضاء عليهم ويحتلوا مكة بلدتهم، فكان
ﷺ ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) أي: قل لهم يا محمد! (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا) أي: آمناً من السوء ومن السرقة ومن الاعتداء، وهم في الجاهلية على شركهم لا يعبدون إلا الأصنام.
قوله تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ [القصص: ٥٧] تجبى إليهم أي: تجمع وتصدر وتورث، فيأتيهم ثمرات كل شيء من كل الأرض من المشارق والمغارب، من رحلات الصيف والشتاء، من أرض الشام الخصبة ومن الجزيرة نفسها، ومن الطائف ومن اليمن، وهي أرض خصبة، ومن المدينة المنورة إذ هي أخصب من مكة ببساتينها وزروعها وثمارها، ومن جميع الأرض أيضاً.
وهذه الفقرة في هذه الآية من المعجزات التي في عصرنا، فقد كان ذلك خبراً لأولئك، ولكن نحن جئنا بعد نزولها بألف وأربعمائة عام، ولا تزال هي هي، ونعلم وكل ساكن في هذه البلاد أن منافع الأرض الملبوسة والمفروشة والمأكولة والمترفة بها توجد في هذه الديار المقدسة في أرض الحجاز الشريف، ويؤتى بها من مشارق الأرض ومغاربها، والحجازي جالس ولا يتكلف لها بكبير شيء حتى تصبح بين يديه، وتصله فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وتأتيه أفضل الألبسة كان ذلك في الجاهلية واستمر الأمر في الإسلام وإلى الآن، وقد مضى على القرآن ١٤٠٠ سنة، والأمر لا يزال هو نفسه؛ إذ تجبى إلى مكة ثمرات كل شيء من كل أرض وبقعة.
فقوله تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا): أي: أولم نسكنهم ونملكهم أولم يتمكنوا تمكن التملك والسلطان والمقام، فهذا الحرم الآمن مكة المكرمة حرم الله صيدها وقطع شجرها، والفسق والظلم فيها، والظلم يعتبر ظلماً خارج مكة، أما في مكة المكرمة فالظلم ظلمان والجريمة جريمتان، حتى لقد قال علماؤنا: إن الصلاة في بيت الله الحرام بمائة ألف صلاة، والغرم بلغ مائة ألف غرم، وكذلك السيئة بمائة ألف سيئة، وهذا قول ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، وخوفاً من أن تأتي السيئة فتجرف معها الحسنة بكل أعدادها ومئات آلافها، أبوا إلا أن يسكنوا الطائف بعيدين عن الحرم حتى تبقى السيئة سيئة واحدة، فيأتون إلى مكة كل جمعة لصلاة الجمعة وهم لا يتكلمون، قال تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: ١١٤]، فلا يأتون إلا للذكر والمذاكرة، وتلاوة قرآن والصلاة، ثم يعودون إلى بلدتهم، وكل يعرف مقام عبد الله بن عباس حبر القرآن الصحابي الجليل، الواسع العلم، مرجع جميع المفسرين ممن أتى بعده، وكل تفسير إذا لم يقل عن ابن عباس فهو تفسير لا مرجع له ولا سند له، وهكذا قل عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي اختص بمزية لم يسبق إليها قط، وهو أنه كان يكتب كل ما يسمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجمع ذلك في كتاب سماه الصادقة، فيه ألفا حديث، وقد أكدت فيما كتبته عن ذلك في تخرجي لأحاديث فقه الحنفية وهو مشهور ومتداول، بأن التدوين كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام وفي حياته، وذكر الصادقة ورد اسمها في كتاب سنن الدارمي الذي قيل عنه: هو سابع الكتب الستة، وعند جماعة من الأئمة يعدونه سادس الكتب الستة ويقدمونه على سنن ابن ماجه، هذا مع صلاح ابن عمرو بن العاص وعلمه وجلالته، ومع ذلك خاف على نفسه من المقام في مكة كثرة السوء والذنوب والمعاصي، وخوفاً من أن الحسنات تنهار كلها.
قال تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: ٥٧]، ذكرت الياء بمناسبة كل، مع أن الثمرات مؤنثة بالتاء، وكل ما كان كذلك فليس التأنيث فيه حقيقة، ولذلك نزل الوحي في القراءات السبع: بيجبى وتجبى، تجبى لمراعاة الثمرات وتاء التأنيث، ويجبى لذكر كل شيء، أي: يجبى كل شيء ويجمع ويورث وأهل مكة جالسون وأهل الحجاز ينتظرون إفضال الله عليهم.
قال تعالى: (رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) أي: نرزق ذلك أهل مكة والحجاز، فقوله: (رزقاً): مفعول مطلق منصوب.
قوله: (مِنْ لَدُنَّا) أي: من لدن الله، ومن عند الله كرماً وفضلاً منه، لمقام مكة في الإسلام، حيث كانت مسقط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت المنزل الأول للوحي، وحيث كانت فيها هذه البنية المقدسة الكعبة المشرفة، التي طاف بها جميع الأنبياء؛ من آدم أبي البشر وأول الأنبياء إلى خاتمهم نبينا عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.
قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: ٥٧] أي: أكثر الناس لم يؤمنوا بالله، بل كفروا به ولم يعلموا هذا الحق، ولم يؤمنوا به، ولم يؤمنوا برسول ولا بكتاب ولا بآيات القرآن وما فيه من دلائل وبراهين قاطعة، ومعجزات تصدق المنزل عليه محمداً ﷺ في كل ما قال.