تفسير قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي)
أجاب قارون قومه: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: ٧٨].
فقال الله مخبراً موسى ونبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨].
أي: أهلك من كان أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً - أي: لهذا المال - فلم يكن المال فقط لـ قارون وانفرد به في الكون، فقد سبق قبله الكثيرون ممن كانوا أغنى منه وأقوى، وفي عصرنا الكثيرون يملكون ما لم يكن يملكه قارون، ويفعلون ما كان يفعله قارون، يطغون بذلك المال ويبطرون، فلا يحسنون كما أحسن الله إليهم وتكون النتيجة بعد ذلك، أن ذهبوا وبادوا، ويبقى المال لمن لا يرحمهم عليه، أو تأتي الشيوعية فتنزعه عنهم عقوبة سماوية، والجزاء من جنس العمل، وهكذا وقع في كثير من بلاد المسلمين، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦].
فقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: ٧٨] معناه: لم أعط هذا المال هكذا بلا سبب، بل أنا رجل نشيط، ولي علم بأنواع التجارة والزراعة وتنمية المال، فأنا أخذته بعرق جبيني وبعلمي ومعرفتي.
وقال الكثيرون من المفسرين: إنه كان يستعمل الكيمياء والإنس والجن، وكل هذا كلام إسرائيلي لا معنى له، والآية لا تدل عليه، فنحن نرى الكثيرين في عصرنا هذا يملكون ما لم يكن يملكه قارون، ولم يقل أحد منهم: جمعت ذلك المال بالكيمياء، فقد يكون لعمل من الأعمال كانتهاز منصب واستغلال بيئة ومعرفة بالتجارة أو بالزراعة، أو معرفة بالصناعة، ولا حاجة إلى أن يكون هناك كيمياء أو تحويل للأصل، ولا أن يكون خدمة من جن ولا شيء من ذلك.
فقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: ٧٨] أي: كان ذلك بمعرفتي وبنشاطي ومسارعتي لمعرفة الأسواق، والتجارات وما إليها، فلم يقل: رزقته بعون الله وفضله ومنه، حتى لو قلنا أوتيتها بمعرفتك فمن الذي أعطاك المعرفة؟ من الذي هيأ لك الجو؟ والكثيرون ممن أخذوا الشهادات وأنواع الدراسات، ومن أعلم الناس بأنواع التجارة والزراعة والصناعة لم يملكوا شيئاً، فكانوا فقراء ولا يزالون قديماً وحديثاً، ولِمَ هؤلاء لم يرزقوا، ورزق هؤلاء؟
ﷺ هؤلاء أراد الله رزقهم، إما إفضالاً عليهم وإما امتحاناً لهم واختباراً، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]، وكما يكون البلاء والاختبار بالشر كذلك يكون بالخير.
إن تعذيب الإمام أحمد رضي الله عنه وفتنته من المأمون والعباسيين كان شراًّ امتحن به، بعد ذلك جاء المتوكل فأطلق سراحه، وحاول أن يقربه ويعطيه، فكان يقول: شرطت عليكم ألا يكون إلا ما أريد، فلا أريد زيارتكم، ولا هداياكم، ولا أن تأتوا إليّ، فكلما أتوه بشيء امتنع، وكان يقول: هذا فتنة، فقد افتتنت بالشر، وأنا الآن أفتن بالخير، فتركوه وذهبوا لأولاده وولوهم القضاء وأعطوهم الأموال فهجر أولاده، لكي لا يكون هذا الإحسان للأولاد طريقاً إليه، وقال: اصنعوا ما شئتم، هذا المال مشبوه، وهذا العطاء مشبوه، وأراد بذلك الدنيا لا الآخرة.
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ﴾ [القصص: ٧٨] أي: قد أهلك الله قبل قارون من القرون الماضية والأجيال السالفة: ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ [القصص: ٧٨] أي: أهلك من كان أكثر قوة وحشماً وخدماً وأتباعاً، وقد قالوا عن قارون: كان إذا خرج خرج بألف من الرجال من أمامه، وألف من الرجال من خلفه، وكذا وكذا من الجواري، وكذا كذا من العبيد، وكذا كذا من الخيام، وكذا كذا من الخيل والبغال، وكانوا يصفون البغال والجمال بأن عليها الذهب والفضة وأنواع الجواهر، فهم لم يروا ذلك ولم يذكره النبي ﷺ ولم يذكره القرآن، ولكن فهموا ذلك من وصف الله غناه ورفاهيته، قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ [القصص: ٧٩] فتصوروا أن هذه الزينة لا تكون إلا بذلك، وليس ذلك ببعيد، وظاهر القرآن يدل عليه.
فقال الله عنه: ألم يفكر ويعتبر، ألم يبلغه ويسمع أن الكثيرين ممن سبقوه، ممن كانوا قبله من الأجيال الماضية، أهلكناهم ودمرناهم وعاقبناهم لكفرهم ككفره وبطرهم كبطره، وكانوا أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً.
قال تعالى: ﴿وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨].
إذ يعرف المجرمون يومئذ بسيماهم ويأت الملائكة للمجرمين بلا سؤال، كما أن الكثيرين يدخلهم الله الجنة بلا سؤال ولا حساب.
فالكثيرون من المجرمين يعرفون بسيماهم ويجرون على وجوههم إلى النار بلا سؤال؛ لأن كفرهم وشركهم وطغيانهم وجرائمهم ظاهرة على جباههم تقرأها الملائكة فهم عرفوا بسيماهم وحالتهم وبأوصافهم فدخلوا النار، وهكذا وصف قارون بالبطر والبغي والظلم والاعتداء والتعالي على الله.


الصفحة التالية
Icon