تفسير قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [القصص: ٨٥].
هذه الآية وحدها في السورة لم تنزل بمكة ولا بالمدينة، فأكثر سور القرآن ما يزيد على (٩٠%) منها إما مكي وإما مدني، إي: ما نزل على رسول الله ﷺ بمكة، أو نزل عليه بالمدينة، وهناك آي من القرآن نزلت عليه وهو في الطريق ما بين مكة والمدينة، في سياحة أو غزوة أو تعليم وتربية لأتباعه.
وهذه الآية نزلت على النبي ﷺ عندما خرج من مكة المكرمة مهاجراً إلى المدينة المنورة، عندما اضطره قومه كفار مكة لهجرانها وتركها، وما هجرها إلا وهو متألم، ويود أن لا يتركها، وأن يبقى فيها، فكان حنينه إلى الأرض التي ولد فيها، والتي خرج منها إلى الوجود، والتي هي مسقط رأسه الشريف ومنبت آبائه وأجداده ومرتع صباه، والمنزل الأول للوحي، فخرج مضطراً بعد أن تواطأت قريش على قتله واغتياله.
وقد خرج معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد سبقهما إلى المدينة المؤمنون المهاجرون، ولم يبقَ في مكة إلا المستضعفون من الصبيان والعجزة ومن حبسهم العذر، وتسلط عليهم قادات مكة ظلماً وطغياناً وعلواً في الأرض وفساداً.
خرج عليه الصلاة والسلام واختفى في غار ثور ثلاثة أيام، ثم سار في طريق غير معروفة إلى أن وصل للجحفة وهي اليوم جزء من رابغ، والجحفة ميقات أهل مصر وأهل الشام وأهل المغرب وأهل إفريقيا ومن جاء عليها ولم يمر على المدينة، ومن مر على المدينة فميقاته ميقات أهل المدينة، وكل من مر على ميقات قوم لإحرامه يصير ذلك الميقات ميقاته.
وهذه الجحفة وردت كثيراً في السيرة النبوية وهي هنا يشار إليها في هذه الآية، والكلام عليها وحدها قد سبق، والكلام فيها يحتاج لدرس أو درسين، وبالمناسبة يأتي ذلك، وقد مضى بعضه.
فبينما هو في الجحفة، وإذا بهذه الآية الكريمة تنزل عليه: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ﴾ [القصص: ٨٥]، أي: إن الذي أنزل عليك القرآن، وجعله فرضاً عليك لتبلغه للناس، ولتعلمهم حلاله وحرامه، وقصصه وآدابه، وعقائده وجميع ما فيه، فالذي أنزل عليك القرآن وفرضه هو الله جل جلاله.
وقوله تعالى: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: ٨٥].
(لرادك) اللام موطئة للقسم، كأن الله جل جلاله يقسم للنبي عليه الصلاة والسلام مسلياً له، ومقوياً له ومشجعاً.
لقد خرج ﷺ حزيناً حيث خرج من أرضه وبلاده مضطراً عن غير رضا منه، خرج بإخراج أهل مكة له كفراً به وبدينه وبربه، فلما وصل للجحفة نزلت عليه هذه الآية تبشره.
أي: يا محمد! يقسم الذي أنزل عليك القرآن، وجعله فرضاً عليك لتبلغ الناس أوامره ونواهيه، حلاله وحرامه، بأنه سيردك إلى الأرض التي خرجت منها وسيعيدك إليها.
وقد فعل جل جلاله، ومن أوفى بعهده من الله، قد عاد إليها عزيزاً منتصراً سيداً آمراً ناهياً محكماً في أعدائه، دخل ﷺ مكة على غاية ما يكون من التواضع والأدب مع الله، راكباً ناقته، فالإبل ليست هوجاء وليس فيها تيه، ولا رقص، ومع ذلك دخل عليه الصلاة والسلام مكة ورأسه منحن، ولم ينسب لنفسه شيئاً، بل الكل نسبه لله أدباً مع ربه، وهو ينشد نشيد الفتح على خلاف أناشيد الملوك والأباطرة وجبابرة الأرض عندما يدخلون فاتحين، فإنهم يتيهون بأنفسهم وبأقوامهم وبقوتهم وبسلطانهم وبما لهم، ويهددون وينذرون بأنهم سيسحقون الأعداء، وسيدوسون عليهم بالأقدام، وسيحيون كذا ويميتون كذا.
دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة وهو السيد العزيز المنتصر نصراً عزيزاً مؤزراً، وهو مطأطئ الرأس على جمل وهو يقول: (الحمد لله الذي نصر عبده وأعز جنده، وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده)، لم ينسب لنفسه شيئاً عليه الصلاة والسلام على ما قاسى من قومه من شدائد، فقد أخرج من بلده مضطراً من غير رضا وأجاعوه ثلاث سنوات حتى كان يعيش على ورق الشجر، وقالوا عنه كذا كذا، وكان عليه الصلاة والسلام يعرض عن ذلك ويأبى إلا الدعوة إلى الله والظهور يومياً عند بيت الله الحرام، وعند الكعبة المشرفة، يدعو إلى الله، ويسفه أحلام المشركين ويزيف آلهتهم، إلى أن دخل إليهم بعد ثمان عشرة سنة من النبوءة، في السنة الثامنة من الهجرة، دخل بهذا النشيد النبوي، فكسر الأصنام وأزالها، وكانت ثلاثمائة وستين صنماً على عدد أيام السنة، وأمر بلالاً الذي كانوا يعذبونه ويضربونه وهو يقول: أحد أحد، أن يصعد على ظهر الكعبة إلى أن جنّ جنون قريش، لِمَ هذا الأسود يصعد على ظهر الكعبة؟ وهو الذي كانوا يحتقرونه ويؤذونه ويظلمونه، فنادى بكلمة التوحيد وأذن الأذان: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله إلى آخر الأذان.
فقال الكثير من الكفار، وهم يحمدون أنفسهم ذلاً وهواناً وكفراً، قالوا: الحمد لله أن أبا فلان مات ولم يرَ هذا المنظر، وأن أخا فلان مات ولم يرَ هذا المنظر، ثم دخل فتجمعوا بين يديه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم اليوم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم)، فما قالوا عنه ساحر ولا مجنون ولا قالوا إنه يطلب الملك والمال والسلطان كما كانوا يقولون بل أخذوا يتمسحون به ويطلبون منه العفو والسلام والأمان.
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فعفا عن مقدرة، ويسمى هؤلاء في السيرة النبوية الطلقاء، ولذلك فإن عمر عندما طعن وترك الخلافة لستة من الصحابة مات رسول الله ﷺ وهو عنهم راض، قال رضي الله عنه: لا يصلح هذا للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء.
هؤلاء الذين لم يسلموا إلا متأخرين بعد أن أتعبوا النبي عليه الصلاة والسلام الكثير والكثير، وبعد ثمان سنين من نزول الآية دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة عزيزاً سيداً، ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى في حجة الوداع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨].
جاء أمر الله بأن المشرك عين النجاسة لأن المتنجس يغسل، أما عين النجاسة فلا تغسل ولو بجميع ماء البحر، والعذرة عذرة لا تطهر، والبول بول، وهكذا المشرك، والكافر، والمنافق.
فطهرت هذه الأرض المقدسة وأصبح المحكم فيها سيد البشر محمد ﷺ الذي أخرج من داره وهو مضطر حزين عليه الصلاة والسلام، فعوضه الله جل جلاله المدينة المنورة.
وقد ورد في الحديث النبوي في صحيح الحاكم وهو حجة الإمام مالك وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن شهاب الزهري، وعمر بن عبد العزيز في الأفضلية بين مكة والمدينة، قال: (اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك) وما كان أحب لله فهو أفضل، فأنزله المدينة المنورة، فالمدينة المنورة أفضل من مكة لدلالة هذا الحديث، الذي في صحيح الحاكم وهو المستدرك على صحيحي البخاري ومسلم، وهو على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.
فما كان أحب لله فهو أفضل، وهذا رأي الخليفتين الراشدين العمرين ابن الخطاب وابن عبد العزيز، والإمامين البرين العالمين عالمي الحجاز بل عالمي الدنيا ابن شهاب الزهري وتلميذه الإمام مالك بن أنس رحمهم الله جميعاً.
والوعد الذي وعده في كتابه وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: ٨٥] وقد أقسم الله به وبشره ووعده فقرت عينه، وانشرحت نفسه وبشر بذلك المؤمنين وتلا عليهم الآية، وهو لا يزال في الطريق قبل أن يصل إلى المدينة المنورة، فبعد أن أنجز الله وعده في فتح مكة قال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي أنجز وعده).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [القصص: ٨٥] كان كفار قريش يقولون عن محمد عليه الصلاة والسلام إنه ضال، بل وقالوا أكثر من ذلك، وفضلوا دين اليهود على دين الإسلام، وفضّل اليهود دين الوثنيين على دين الإسلام.
فتركهم النبي عليه الصلاة والسلام استغناءً عنهم، قال الله له قل لهم: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى﴾ [القصص: ٨٥] فالله أعلم وستعلمون بعد ذلك من هو في ضلال مبين.
فالله أعلم بالحقائق، هل أنا الذي على ضلال مبين أو أنتم؟ هل أنا الذي على هدىً من الله وطريق مستقيم ونور بين مشرق أم أنتم؟ وقد بان الأمر بعد ذلك، فسرعان ما أسلم الكثير وذل الكثير وأسر الكثير، وكانت المعركة القاصمة النهائية الفاصلة معركة بدر التي فيها أعز الله الإسلام والمسلمين، وذل كفار قريش، ومن ذلك اليوم لم يرفع لهم رأس.