تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً)
قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: ٨].
أي: كما أمر الله بطاعته وبتوحيده وصى بالوالدين، ويكثر في القرآن الكريم أن يقرن الله بر الوالدين بطاعته وتوحيده؛ وذلك لأنه الخالق الرازق، وقد أعطاهم الإيمان وأكرمهم بالرزق وأنعم عليهم بالحسنات، وأما الوالدان فقد كانا سبباً لخروج الابن إلى هذه الدنيا، فإن كان مؤمناً ففي صحيفتهما، وإن دخل الجنة ففي صحيفتهما، وإن عمل في دنياه وفي خدمة العباد، ونشر الإسلام، وقتال الكافرين ففي صحيفتهما، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فكيف إذا لم يشكر أباه وأمه!! ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨] التوصية من الله فرض وأمر، قال تعالى في الآية: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ﴾ [العنكبوت: ٨] ولم يقل: المسلم؛ لأن الأوامر والنواهي الإلهية والنبوية يخاطب بها كل إنسان على الأرض، ولكن شرط قبولها أن يكون الإنسان مؤمناً، فهو أول شرط في صحة قيام الطاعات، وأما المخاطبة بها فإن الله يخاطب كل الناس، ونبينا الخاتم نبي لجميع الناس وجميع البشر: أبيضهم وأسودهم، في مشارق الأرض ومغاربها، بل والإنس والجن.
والبر قد يكون من الكافر ويكون من المؤمن، فإن الكافر يبر أباه ويبر أمه، وقد يقبل بره أو لا يقبل، ويفرض ذلك على المسلم الذي يأتي بذلك بعد الشهادتين، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨]، أي: أمرناه بالإحسان إليهما، والإحسان كلمة شاملة بأن يكون مطيعاً مؤدباً، وألا يقول لأحدهما أقل كلمة وأحقرها: أف، فحتى التأفف لا يجوز أن يتأفف من أحدهما، وألا يعبس في وجوههما، وألا يرد أوامرهما إلا في حالة واحدة، ذكرها الله في قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: ٨].
فالوالدان إن كانا مشركين أيضاً فأنت مأمور بالإحسان إليهما وببرهما وبالقيام على طاعتهما والأدب معهما على كل حال، ولا يعصيان أو يعصى أحدهما إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا أمرا الأبناء أو أحدهم بالشرك بالله، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: ٨].
وقال في آية أخرى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: ١٥].
فما يتعلق بالإيمان والإسلام وبطاعة الله ورسوله ﷺ فلابد أن تقوم بذلك، ولا تطع أمر الوالدين إن حاولا أن يرداك عن الإيمان، ولكن صاحبهما بالمعروف، ومعروف الدنيا السكن والنفقة والكسوة وكل ما يدخل تحت البر وتحت الإحسان؛ فهذا أمر إلهي فرضه الله على الإنسان مع والديه؛ فإن خرج الأولاد عن ذلك انتقلوا من البر إلى العقوق بلا واسطة.
وعظم جرم العقوق بينه النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي ذنب أعظم بعد الشرك بالله؟ قال: (عقوق الوالدين).
فكما أن بر الوالدين يأتي في الدرجة الثانية بعد التوحيد والإيمان بالله ورسوله ﷺ فكذلك مخالفة الوالدين وعقوقهما يأتي في الدرجة الثانية بعد الكفر بالله، وليس هناك مصيبة أعظم من هذا البلاء.
وطاعة الوالدين معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وكتب السنة عامرة بذلك، والقرآن فيه آيات تتحدث عن ذلك وليست واحدة، وكلها تلح وتؤكد هذا المعنى، ومن باب القاعدة: الشيء إذا تكرر تقرر.
أي: عندما يكرر الأمر والنهي فإنه يصبح قراراً وأمراً لا هوادة فيه.
وقد نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص أحد الستة الذين اختارهم عمر للشورى في أمر الخلافة، وهو أحد القادة الفاتحين، وأحد الرعيل الأول من الأصحاب المهاجرين، قال رضي الله عنه: نزلت في أربع آيات من كتاب الله وذكر منها هذه الآية.
وذلك أنه اشتهر ببر أمه، فلما أسلم قالت له: والله يا بني! لن أطعم ولن أشرب ولن يظل رأسي ظل بيت ما لم تعد لديني وتترك هذا الدين المبتدع.
فسكت عنها، فمر اليوم الأول فلم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فسكت عنها، ثم مر اليوم الثاني والثالث وهي كذلك، وقد أخذت تضعف وتتدهور صحتها فقال لها: يا أماه! إنك لتعلمين طاعتي لك وبري بك، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً على أن أترك دين محمد لم أفعل، فانظري لنفسك: كلي أو لا تأكلي، واشربي أو لا تشربي! فعندما رأت الجد والصرامة في قوله دخلت الغرفة فأكلت وشربت.
وبسبب إرادته القوية وإيمانه الثابت انضمت إليه فآمنت بإيمانه وأسلمت بإسلامه، وذلك نتيجة شخصيته وقوة عزيمته وقوة إيمانه وإسلامه.
ولقد ابتلي المسلمون في مكة أشد البلاء من الجوع والتعذيب والضرب ووضع الحجارة عليهم في وقت شدة الحر عندما تكون الشمس في كبد السماء، ومعلومة شدة الشمس في أيام الحر هنا في مكة، فقد كانوا يضعون الحجارة على بطونهم وظهورهم، ويربطونهم بالحبال ويسلمونهم لعبيدهم وغلمانهم ليجروهم في أزقة مكة ودروبها؛ ليكفروا بالله وليرتدوا عن دين الله، وهم لا يقولون إلا أحد أحد، فمات من مات منهم، وكان أول من مات في سبيل الله سمية أم عمار زوجة ياسر رضي الله عنها، ودخلت في عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
فأول من آمن بهذا الإسلام وبمحمد عليه الصلاة والسلام امرأة، وهي أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة رضوان الله عليها، وأول من استشهدت في سبيل الله امرأة، وهي سمية أم عمار، فكان لـ خديجة أجرها وأجر من آمن بعدها، ولـ سمية فيما استشهدت به أجرها وأجر من استشهد في سبيل الله بعدها باستمرار.
وأول من هاجرت في سبيل الله البكر العذراء عاتكة بنت عقبة بن أبي معيط، وأبوها الكافر المرتد عقبة كان من أشد أعداء الله على رسول الله، وقد أسر في غزوة بدر فقتله النبي عليه الصلاة والسلام كما قتل ذاك الشاعر الذي كان يهزأ بالقرآن وبنبي الله عليه الصلاة والسلام، الذي كان يقول: أنا أستطيع أن أقول كما يقول محمد، إن هي إلا أساطير الأولين.
وعندما أمر النبي ﷺ بقتل عقبة والد السيدة الجليلة عاتكة قال له: يا محمد! لم خصصتني بالقتل؟ فلم يجبه، ثم قال: لمن تترك الصبية؟ قال: للنار، وكان ولده مع دعواه الصحبة منافقاً أو أشبه بالمنافقين، وهو الوليد بن عقبة المشهور في التاريخ الأول في الإسلام، أما عاتكة فقد كانت من أنبل المؤمنين وأول من هاجرت من مكة إلى المدينة، هجرت أباها الكافر وأهلها الكفار، وهاجرت قبل الرجال جميعاً، وعندما اشتد البلاء على المسلمين جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله! ألا ترى هذا البلاء الذي نعيش فيه؟ فادع الله أن يرفعه عنا، فأخبرهم أن من قبلهم كانوا ينشرون بالمناشير حتى تُقسم رءوسهم، وتمشط أجسادهم بأمشاط من حديد ما بين لحمهم وعظمهم، وهم يأبون إلا الإيمان والصمود على الإسلام والثبات على توحيد الله، ثم قال لهم: (ولكنكم قوم تستعجلون)، ومعناه: أن النصر سيأتي، والعزة ستأتي، ومكة ستنفردون بحكمها وستخرجون كفّارها ومشركيها، ولكن الأمر مرهون بوقته، فمن استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه كما قال الحكيم المسلم الفيلسوف.
قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: ٨] أي: يا آباء ويا أبناء! ستعودون إليّ وأُحاسب المحسن وأجازيه على إحسانه، وأُحاسب المسيء وأجازيه على إساءته، والله يعلم الصادق من الكاذب، والأعمال الظاهرة تدل على الأعمال الباطنة، وهذه بشرى لفاعلي الخير، وهو نذير لمرتكبي الشر، فهم يرجعون إلى الله جميعاً، وسنرجع جميعنا إلى الله، والله يعلم أعمالنا، وسيجازي كلاً منا على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.


الصفحة التالية
Icon