تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)
قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: ١٠].
أي: من الناس طبقة مترددة بين الكفر والإيمان لا تكاد تُبتلى أو تختبر أو تفتن بشيء إلا وضاع إيمانها ونافقت، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ [العنكبوت: ١٠] ولم يقل: ومن المؤمنين؛ لأن من نافق ليس مؤمناً، ودعواه الإيمان دعوى كاذبة، وإنما يقول بلسانه.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: ١٠] أي: إذا امتحن أو اختبر لأجل دينه وصدقه، وطاعته وإعلانه إسلامه؛ أو أصابه الإيذاء البشري عندما يؤذى به يجعل فتنة الناس كعذاب الله، فيضطرب ويرتد عن الإسلام ويترك الإيمان وصار شيوعياً أو اشتراكياً أو ماسونياً! وهذه الأديان اليهودية الجديدة ابتلي بها المسلمون في أقطارهم وفي بلادهم، فعندما يمتحن هذا الامتحان يترك الدين فلا يصلي.
فالمنافق إذا أوذي لأجل دينه وإذا امتحن لأجل إسلامه، إذا قيل له: دع الإيمان وكن مع الكافرين، فإنه يضطرب حيناً ويرتد حيناً ويجعل فتنة الناس وعذابهم كعذاب الله، لا يفكّر أنه مهما امتحن ومهما عُذِّب في الدنيا إن هو ضاع إيمانه واستجاب لكلام أئمة الشياطين والكافرين لم يقارن بين عذابهم وعذاب الله فيما إذا ارتد أو نافق أو اضطرب في إسلامه ودينه؛ وهذا لضعف إسلامه من الأصل ولعدم رسوخه في الإيمان من أصله.
إذا أوذي في الله لأجل دينه وامتحن لأجل إسلامه يسرع إلى الكفر فيرتد ويجعل عذاب الناس من المصيبة والبلاء يعادل عذاب الله، فلا يخاف من عذاب الله المنتظر له، وإنما يخاف من عذاب الناس له فيرتد ويكفر ويقول للناس: ألا تعذروني! قال تعالى: ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٠].
والخطاب لنبينا ﷺ وأصحابه المؤمنين الصادقين وقد كان معهم جماعة من المنافقين كـ عبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين فقد كان المنافقون من المدينة ومن اليهود ادعوا الإسلام وكانوا كذبة فجرة، فإذا كان النبي في عز ونصر يقولون للنبي وللمسلمين: إنا كنا معكم، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٠] أي: لم لا تقاسموننا الغنائم؟ ولم لا تشركونا معكم في العز والنصر؟ ألم نحضر المعركة؟ وقد حضروا وألبوا على رسول الله، وحضر في غزوة أحد عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه المئات من المنافقين أمثاله في عزّ المعركة، فانسحب هو ومن معه فانتقلت المعركة من نصر إلى هزيمة لفعل هذا المنافق، والنبي عليه الصلاة والسلام لاقى الشدائد في المعركة، فقد سقط في حفرة وانكسرت ثناياه عليه الصلاة والسلام، ودخلت حلقتا المغفر -وهو من الحديد الذي كان لابساً له في الحرب- في خده إلى أن وصلت إلى أسنانه، إلى أن جاء الصحابة بعد ذلك فأخذوا هذا الحديد بأسنانهم إلى أن طارت الأسنان والثنايا، ولما أخذوا بيده لم يستطع عليه الصلاة والسلام لكثرة ما نزفت دماؤه في الحفرة أن يصعد منها، فوضع الصحابة ظهورهم فصعدوا به بعد بلاء وجهد.
وفي غزوة الأحزاب لاقى النبي ﷺ وأصحابه أشد المعاناة، وما كاد أن يصل إلى البيت حتى جاءه جبريل وقال: إنا لم ننزع لأمة الحرب بعد، فاغز بني قريظة، فذهب إلى بني قريظة، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، وذهب معه الكثير من الصادقين من المهاجرين والأنصار إلى بني قريظة وهم جرحى تسيل دماءهم.
وقد لقي النبي عليه الصلاة والسلام من المنافقين الشدائد، فكان هؤلاء المنافقون إذا كانت المعركة هزيمة أظهروا الكفر وأظهروا التشنيع، وإذا انتصر النبي عليه الصلاة والسلام كما انتصر في غزوة بدر جاء المنافقون مسرعين وقالوا: ألم نكن معكم؟ قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٠] أي: في النصر.
فهم ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾ [النساء: ١٤٣]، فالمنافق ذو وجهين: وجه مع المؤمنين ووجه مع المنافقين، وهؤلاء طبقة لم تنته قط من الدنيا، فقد كانت ولا تزال كما كانت أيام نبي الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله على أصحابه، فهذه الطبقة ملازمة لكل عصر.
وإذا ظن المؤمن أنه سيكون مؤمناً ولا يختبر في دينه ولا يُفتن في دعواه ليُعلم هل هو صادق أو كاذب، فإنه يكون ضعيف الإيمان، ويكاد في أول امتحان يفقد دينه وإسلامه، وقد حصل هذا كثيراً، فيظهر البعض على غاية من التقوى والصلاح فإذا به يُبتلى يوماً إما ببلاء سماوي أو بلاء بشري، وإذا به يتزعزع، وإذا به يترك الصلاة وقد كان يصلي، فكان مؤمناً فأصبح من المنافقين، وهذا إيمانه في الأصل غير ثابت وغير مستقر؛ لأن الإسلام لم يخالط بشاشة قلبه بعد ولم يذق حلاوته.
قال تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: ١٠].
يقول الله لنبيه: قل لهؤلاء: إن الله جل جلاله أعلم بما في صدور العوالم كلها والخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، فالمنافقون الذين يزعمون الإيمان ويظنون أنهم يخفون على الله، هذا من سخافة عقولهم وضياع إيمانهم، وهذا يدل على أنهم لا عقل ولا دين لهم.