تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا)
قال الله جل جلاله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [العنكبوت: ١٢].
إن الكفر أنواع كما أن الإيمان أنواع، فهناك الكافر الداعي إلى النار وإلى الكفر، ولا يكتفي بصد الناس عن الإيمان، ولكنه في وقاحة يدعو المؤمنين إلى الردة، وترك الإيمان واتباع الكفر والشرك، وعصيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يحكيه الله جل جلاله هنا عن أقوام من الكفار عاصروا رسول الله ﷺ في مكة والجزيرة العربية، وهذا النوع يوجد في كل عصر وفي كل أمة، وهؤلاء نموذج لهم ومثال عنهم، فلم يكتفوا بكفرهم، بل قال هؤلاء الكفار للذين آمنوا بالله وبرسوله وبكتابه: دعوا دينكم ودعوا الإيمان ودعوا الناس، واتبعوا طريقنا وانصروا كفرنا، ونحن نلتزم لكم بأن نحمل خطاياكم وجرائمكم وآثامكم، قال الله عنهم: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [العنكبوت: ١٢].
وصناديد قريش ما كانوا إلا مثالاً للكفار الصادين عن الله ورسله وكتبه، وكانوا قد قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا وطريقنا في الكفر ودعوا الإيمان وعودوا إلى دين الشرك والكفر ونحن نلتزم لكم بأن نجعل آثامكم في أعناقنا، فيتحملون أوزار أنفسهم وأوزار هؤلاء الذين يضلونهم، قال الله عنهم: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [العنكبوت: ١٢] أي: كذبوا وافتروا، بل كما قال الله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣] أي: أن هؤلاء الذين كذبوا وافتروا: سيحملون أوزار غيرهم.
وهنا يقسم الله جل جلاله، ولام الابتداء هي الموطئة للقسم، وأكد ذلك بنون التوكيد الثقيلة، أي: إن هؤلاء الدعاة إلى الكفر، والذين زعموا للمؤمنين بأنهم سيحملون أوزارهم وآثامهم، سيحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأثقالهم، وهي جمع ثَقل وثِقل، أي: ثقل الجرم وثقل الشرك والإثم وثقل الجريمة، فيحملونها عن أنفسهم؛ لكفرهم ولشركهم ولصدهم عن الله، وليحملن مع أثقالهم وأوزارهم أثقالاً أخرى زائدة على ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت: ١٣]، أي: وسيسألون يوم البعث، ويوم العرض على الله عن هذا الكذب والافتراء: من الذي قاله لهم؟ وفي أي كتاب وجدوه من كتب السماء؟ وفي أي منطق من العقل؟ إن هم إلا كاذبون في ذلك، وسيحملون أثقال أنفسهم وأثقال الذين أضلوهم بغير علم.
وهذا المعنى زاده النبي عليه الصلاة والسلام بياناً فذكر أن قوماً يأتون يوم القيامة ومعهم حسنات كثيرة، ولكن صاحبها يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وأكل مال هذا، فيعرض يوم القيامة على الله وأصحاب الحقوق يطلبون حقوقهم، وإذا كان لا حقوق هناك وليست إلا حسناته فإنه يؤخذ من حسناته وتعطى لأولئك المظلومين، فلا يزال يؤخذ من حسنات هذا الظالم الشاتم حتى لا يبقى له شيء منها، فيقول الله لملائكته: خذوا من أوزار أولئك المظلومين واجعلوها في ميزان هذا الظالم، أي: أنه تضم أثقال هؤلاء إلى أثقاله، وأوزار هؤلاء إلى أوزاره، وآثامهم إلى آثامه.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ سأل أصحابه يوماً: (من المفلس فيكم؟ فقالوا: الذي لا مال له ولا متاع، فقال: المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كأمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا وأكل مال هذا وشتم هذا، فيؤخذ من حسناته وتضم لحسناتهم، حتى إذا فنيت حسناته، أخذ من آثامهم فطرحت عليه، ثم يقال: خذوه فاسحبوه إلى النار).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من قتل أو إثم يحدث إلا كان على ابن آدم الأول كفل من وزره؛ لأنه أول من سن القتل)، أي: لأنه كان أول من ارتكب جريمة القتل، فكان وزر القتل عليه حيث قتل فيه نفساً ظلماً وعدواناً، ويبقى عليه وزر من ارتكب هذه الآثام وقتل النفس المؤمنة بغير حق، فيحمل أوزاره وأوزار الآخرين الذين ارتكبوا عمله وتأسوا به.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهكذا.
فهؤلاء دُعاة النار وهؤلاء الكفار المشركون الصادّون عن الله ودينه قالوا كما حكى الله عنهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ [العنكبوت: ١٢].
فطلب الكفار من المؤمنين بعد إيمانهم أن يتبعوا سبيل الكفر والشرك وسبيل التهود والتنصر وقالوا لهم نحن نحمل أوزاركم وآثامكم ويكون ذلك في أعناقنا وفي رقابنا، فقال الله عنهم: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٢ - ١٣]، أي: بل سيحملون أثقال أنفسهم وجرائمهم وآثامهم وعظائمهم وكبائرهم، ويحملون كبائر غيرهم من الذنوب والآثام الذين أضلوهم بغير علم.
﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت: ١٣]، أي: وسيؤتى بهم يوم القيامة فيسألهم الله جل جلاله عن هذا الإفك والكذب الذي كذبوه والباطل الذي زعموه، وذهبوا يضلون الناس به بغير علم ويقولون لهم: نحن نتحمل عنكم آثامكم، وهذا ديدن كل ضال يريد أن يغري غيره بضلاله وبكفره، سواء كان حاكماً أو محكوماً، أو زعيماً أو رعية، أو عالماً أو جاهلاً، وسواء كان داعية للكفر أو للتهود أو للتنصر، فإنه عندما يدعو غيره إلى كفره ونفاقه وبعده عن الله يحاول أن يذكر له أعماله ويفتخر بها، ويلتزم بتحمل وزر أولئك.
والله يكذبهم ويقول: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [العنكبوت: ١٢]، أي: بل سيحملون أثقالهم وجرائمهم وجرائم الذين أضلوهم بغير علم.
وعلى هذا قامت النصرانية، فقد جعلوا مبدأهم الصلب والفداء، وذلك عندما زعموا أن عيسى الذي صلبه اليهود رباً، فقيل لهم: كيف يكون عيسى رباً وقد صلبه اليهود وقتلوه؟ فاضطربوا وقالوا تارة عنه: هو الله، وتارة: هو ابن الله، وجعلوا الله ثالث ثلاثة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣]، وقال: ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠].
وهكذا تعددت أقوالهم الكفرية الصلعاء، ثم زعموا أن عيسى إنما فعل ذلك ليفدي عباده ويفدي خلقه من الإثم والجريمة والخطيئة، فجعلوا شعار دينهم ومبدئه الصلب، أي: إن ربهم صلب نفسه وفعل ذلك عن طواعية، ثم قالوا: الفداء، أي: فداهم بنفسه وتحمل آثامهم وجرائمهم؛ وبهذا كانت النصرانية جزءاً من اليهودية، ولن يكون النصراني نصرانياً إلا بعد أن يكون يهودياً؛ فهم يؤمنون بما يسمونه العهد القديم وهو التوراة، ويزعمون أنها كذلك، ثم بالعهد الجديد وهو الإنجيل.
وعيسى عليه السلام لم يُرسل إلا إلى اليهود ولم يُرسل لأحد غيرهم، وقد روي عنه في الإنجيل أنه قال: إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة.
وأكّد القرآن هذا الكلام وهو المهيمن عليه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف: ٦] فعيسى عليه السلام يقول لليهود: لست إلا رسولاً إليكم ومرسلاً لكم ولم أُرسل لغيركم، ولذلك إذا ذُكر في الكتب السماوية وفي الكتاب المهيمن عليها بنو إسرائيل فإنما يُقصد بذلك اليهود والنصارى معاً؛ لأن عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل، والنصرانية ليست إلا ديناً إسرائيلياً حُرّف وبُدّل كما حُرّفت العقيدة فيه من توحيد إلى وثنية، وإلى جعل الله الواحد ثلاثة وعبادة الله وعيسى ومريم، فكذبوا وأفكوا وقالوا على الله بغير علم.
فهؤلاء عندما جعلوا من دينهم ومبدأ شأنهم شعار الصلب والفداء، قصدوا أنه فدى البشرية بصلبه نفسه، وبذلك فتحوا الأبواب على مصارعها للفواحش والخطايا والجرائم، وقد قالوا لبعضهم: إن عيسى قد تحمّل عنهم وزرهم وخطيئتهم لما سلّم نفسه للصلب، فكان بذلك قد افتداهم وتحمّل خطيئاتهم؛ وهذا يكذّبه القرآن بقوله: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤] وهذا هو المبدأ الإسلامي المنطقي والعقلي.
وكرر الله هذا المعنى هنا بأوسع عبارة فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ [العنكبوت: ١٢]، أي: اتبعوا طريق الكفر والوثنية وعبادة عيسى ومريم وقولوا بالفداء والصلب واجعلوا ذلك شعاراً، ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٢] فكذّبهم الله فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [العنكبوت: ١٢] و (شيء) نكرة في سياق النفي فتعم جزئيها وكليها، وصغيرها وكبيرها، ثم أكد الله هذا التكذيب فقال: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [العنكبوت: ١٢]، أي: كذبوا على الحق وكذبوا على أنفسهم وكذبوا على الناس.
ثم زاد الله فقال: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣]، أي: عقيدة الصلب والفداء في زعمهم، فلم يكن صلب ولا فداء، وإنما هي خزعبلات وأباطيل وضلالات، فقد لعبت اليهودية بهم فتلقفوها وجعلوها عقيدة، عاشوا عليها وماتوا عليها منذ ألفي سنة أو قريب من ذلك، فكذّبهم الله وقال عنهم: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت: ١٣].
أي: وسيبعثون بعد الموت يوم القيامة للحساب وللعرض على الله يوم الفصل بين الخلق، فيسألون عن هذا الكذب الذي كذبوه والذي افتروه، وكيف يكون رب قد صُلب و


الصفحة التالية
Icon