تفسير قوله تعالى: (إنما تعبدون من دون الله أوثاناً)
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: ١٧].
أي: قال إبراهيم لقومه: هذا الذي تعبدونه من دون الله وتخصونه بالعبادة من دون الله ليس إلا أوثاناً، وهنا أتى بأسلوب الحصر.
والأوثان جمع وثن، والوثن: الصنم والحجر والخشب يصنعه الإنسان ثم يسجد له، وأنواع الأوثان في الأرض كثيرة، فمن الناس من عبد الملائكة، ومن الناس من عبد الجن، ومن الناس من عبد الأنبياء والصالحين كعيسى ومريم، ومن الناس من عبد الأحجار، ومن الناس من عبد ما يسمونه الطبيعة، ومن الناس من عبد اليهود، ومن الناس من عبد ماركس ولينين وتركوا دين الله وقالوا بالشيوعية والاشتراكية كفراً بالله، وابتعاداً عن دينه، وتغييراً لإمام الهداة وإمام الأنبياء إلى أسماء قذرة وسخة عوضاً عن هذا الدين الحق والإمام الحق محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فهذه الأوثان قال إبراهيم عنها لقومه: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧].
أي: إنما تعبدون أوثاناً وأصناماً لا تضر ولا تنفع، فهي لا تنفع نفسها ولا تضرها، فكيف تنفعكم أو تضركم؟ أتركتم الله الخالق الرازق الذي يرزق ويعطي ويمنع وعبدتم المخلوق العاجز!! ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ [العنكبوت: ١٧] وكيفما كان شكلها فهي أصنام لا تضر ولا تنفع سواء كانت جامدة أو متحركة، فهي لا تضر ولا تنفع نفسها فكيف بغيرها؟ ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧].
أي: تصنعون كذباً وزوراً وتأتون إلى هذه الأصنام فتسمونها آلهة، ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم: ٢٣].
فلا سلطان علم، ولا دليل عقل، ولا دليل نقل، وإنما هي أمراض وعلل أُصيبت به عقولكم، وتركتم الله الخالق، وتركتم الأنبياء على عصمتهم وعلى رسالتهم، وتركتم خاتم الأنبياء والرسل الذين أُرسل لكل الخلق منذ بعثته كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، فكان رسولاً للخلق جميعاً إلى يوم القيامة، ولا دين عالمي جاء لكل الخلق إلا الإسلام.
وأما الأديان الأخر فهي أديان محصورة في أقوام وعصور، ولو ادعى بعضهم أو جميعهم أن أديانهم عالمية، فمثلاً موسى لم يرسل إلا لبني إسرائيل، وعيسى قد ذكرنا قوله في الإنجيل والقرآن، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد قال: (خصصت بخمس) فذكر منها: (كان الأنبياء قبلي يُرسلون إلى أقوامهم خاصة، وأرسلت للناس عامة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتّباعي) وعيسى عليه السلام كذلك، وهو لا يزال في السماء فقد رفعه الله إليه، ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ [النساء: ١٥٧] وإنما تلك فرية افتراها اليهود وصدقتها النصارى؛ لفساد عقولهم ولسخافة نفوسهم.
وإنجيل برنابا يصرّح بهذا المعنى الذي قاله القرآن الكريم من أن عيسى لم يُصلب ولم يُقتل، وإنما قُتل شبيه له من حوارييه كان منافقاً باعه بدراهم معدودة إلى حاكم القدس إذ ذاك، وقد قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧]، أي: قتلوا شبيهاً له وهم يعلمون أنه ليس بعيسى.
وفي إنجيل برنابا: أن هذا الذي حملوه على الصليب وألبسوه تاج الشوكي كان وهو في الطريق إلى الصلب يبكي ويصيح: لست عيسى، أنا شكوت عيسى وأغريت الروم بعيسى، وهم يلعنونه ويتفلون في وجهه، ولكن الله رفع إليه عيسى! وقد اجتمع به نبينا عليه الصلاة والسلام عند المعراج في السماء الأولى، وسينزل في آخر الزمان بنص القرآن ونص السنة المتواترة وإجماع المسلمين، وما أنكر ذلك إلا ضال أو جاهل أن يتعلم، وليس الجهل بعذر، فسينزل عيسى ويكون من أتباع نبينا، وسيحج حجة الإسلام، ويصلي صلاة المسلمين وسيأتم بالمسلمين، وقد ترجم له من كتب في الصحابة، فترجم له الحافظ في الإصابة على أنه من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن تعريف الصحابي ينطبق عليه، فالصحابي هو من رأى رسول الله ﷺ حياً وآمن به ومات على ذلك، وعيسى اجتمع بالنبي ﷺ وهو حي، وسينزل للأرض وهو على دين محمد ﷺ وعلى دين الإسلام، وسيموت على ذلك، فهو إذاً صحابي كما ترجم له من كتب في تراجم الصحابة كـ ابن الأثير وكـ ابن عبد البر والحافظ، وهذا إجماع بين المسلمين.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧]، أي: تخترعون وتختلقون وتصنعون الكذب إفكاً وكذباً وتزعمون أنها آلهة، وأنها معبودات من دون الله، وليس ذلك إلا في عقولكم السخيفة الضائعة، قال الله تعالى عن إبراهيم فيما قاله لقومه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ [العنكبوت: ١٧].
أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون أن يطعموكم إذا جعتم، أو يسقوكم إذا عطشتم، أو يشفوكم إذا مرضتم، أو يحيوكم إذا متم، فكيف تعبدون من لا يضر ولا ينفع؟ ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ [العنكبوت: ١٧]، أي: من أراد الرزق فليطلبه من الله، ولا يستغني مخلوق عن الرزق وإلا لمات جوعاً وهلك عطشاً، ولو طلبوا ذلك من الأوثان لما فعلت، فهم يعبدون من لا يعطيهم ويتركون من يعطيهم، فهل هناك سخافة وضياع عقول أقبح من هذا؟ ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ [العنكبوت: ١٧]، أي: ابتغوا الرزق عنده، فهو جل جلاله قادر على رزق هؤلاء العباد بكل أشكالهم وأنواعهم ولا يعجزه عن ذلك شيء، وهو القادر على كل شيء.
قال تعالى: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: ١٧] فالله وحده الذي يجب أن يُعبد فاعبدوه، وهو الذي يجب أن يُطلب منه الرزق ويُبتغى ويُراد فهو القادر، فالشكر له والحمد له.
﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: ١٧]، أي: إلى الله الرجوع وإليه المعاد والبعث، وعندما نحيا ونبعث مرة ثانية إلى الله فهو الذي سيحاسبنا على من فعل خيراً فخير ومن فعل شراً فشر، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨].
فكيف تتركون الخالق الرازق، وتجرون خلف من لا يضر ولا ينفع، ومن لا يرزق ولا يحيي؟!