تفسير قوله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه)
قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠].
يقول جل جلاله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٠] التنوين هذا هو تنوين العوض، أي: كل قبيلة، وكل أمة، وكل طاغية وجبار ممن ذكر الله من قوم هود وقوم صالح، وقارون، وفرعون وهامان؛ كل واحد منهم لقي عذابه نتيجة كفره وجرائمه وذنوبه، فكل واحد منهم أخذه الله وأهلكه وعذبه بسبب ذنبه والجرم الذي قام به، وبسبب الشرك الذي عمله.
يقول تعالى: ﴿َفَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ [العنكبوت: ٤٠] وهم عاد قوم هود، وذلك عندما كفروا بالله فأرسل الله عليهم الحصباء والريح العقيم، فكانت تضرب هذا وتصيب هذا وتقتل هذا، وتفصل رءوسهم عن أجسادهم، إلى أن أصبحوا كأعجاز نخل خاوية.
وهذه الآية فيها أسلوب اللف والنشر كما هو معلوم في كتب البلاغة، أي: أن كل حكم يعود للأول المذكور على الترتيب، فالمذكور أولاً هم عاد قوم هود، فكان عقابهم أن حصبوا بالحصباء إلى أن طارت الرءوس عن الأجساد.
ومنهم من أخذته الصيحة، فصاح بهم جبريل عليه السلام، وهؤلاء هم ثمود قوم صالح، وذلك عندما خالفوه، وخرجوا عن أمره، وطلبوا معجزة الناقة أن تخلق من الصخر بطول كذا وعرض كذا، فدعا صالح ربه فكانت الناقة كما طلبوا، فقتلوها عتواً على الله، وكفراً بأنبياء الله، وظلماً لهذا الحيوان الذي لم يصنع شيئاً، وإنما خلق إظهاراً للمعجزة، وإذا بالله الكريم يصيبهم بالصيحة، فصاح بهم جبريل صيحة ارتجت لها الأرض بحيث خرجت قلوبهم من حلاقيمهم وصرعوا جميعاً، وهلكوا حيث هم، وآثارهم لا تزال في أرض الحجر من المدائن، في حدود الحجاز والشام، وتلك آثار من غضب الله عليهم ولعنهم؛ نتيجة كفرهم وشركهم.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ﴾ [العنكبوت: ٤٠] وهو قارون، خرج في زينته يتيه ويتعالى على القوم، وقد خرج في كذا ألف راكب، وكذا ألف حصان وجواد، فتمنى القوم زينته وحليته، ويقولون: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص: ٧٩].
وهكذا ظنهم وتوهمهم حتى خسف الله به وبداره وبجميع كنوزه الأرض، فأصبح في قعرها وكأنه لم يكن يوماً على وجه الأرض؛ عقوبة لكبريائه، فقد أذله الله.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت: ٤٠]، والذي أغرق فرعون وهامان وقومهما، عندما كذبوا نبوة ورسالة موسى وهارون، على كثرة ما جاءهم من آيات بينات، ومعجزات واضحات، لكنهم أبوا إلا الكفران.
بعد ذلك أمر الله موسى وقومه بأن يتركوا أرض مصر، فجاوزوا البحر، وإذا بهؤلاء يلحقونهم، فيدخل فرعون وهامان وجنودهما البحر، وأصبحت الأرض قبل ذلك يبساً لا ماء فيها، وأصبح الماء يميناً وشمالاً كالجبلين العظيمين، فدخل موسى وهارون وقومهما المؤمنون، فلحقهم فرعون وهامان، وهما يظنان أن الأرض بطبيعتها وجدت كذلك، ثم دخل جميع الجيش البحر، ولم يبق أحد على الشاطئ، وإذا بالبحر ينطبق عليهم، ويصبحون طعماً للحيتان وهوام البحر، إلا فرعون، فقد حفظ الله جسده ليبقى آية لمن بعده، ولا يزال محفوظاً إلى اليوم في متاحف مصر، وهو من الأجسام المومياء، ولكن لا يعرف بالقطع، هل هذا أو ذاك؟ ولكنه واحد منهم؛ لأن قومه أو البعض الذين لم يلحقوا ممن لم يكونوا جنداً كذبوا أن يكون فرعون قد هلك، وزعموا أنه إله سيعود، إلى أن رأوا جسده جثة هامدة لا تتحرك.
وبعدما رأت الأعين، آمنوا بأن فرعون لم يكن إلهاً، وإنما كان كذاباً دجالاً.
فكما أغرق الله قوم نوح، أغرق قوم فرعون، وكما رجم قوم عاد، كذلك أصيب بالرجم قوم لوط، فقد قال الله عن قوم نوح: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ١٤] فأخبرنا تعالى بأنه عاقبهم بالطوفان فغرقوا وذهبوا.
وقال لنا عن قوم لوط عندما جاءه رسل الله من الملائكة: ﴿إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [العنكبوت: ٣١]، إلى أن قال: ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٣٥]، فقد دمرها الله بالحاصب.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠] أي: أن الله جل جلاله لم يظلم ولا يظلم أحداً ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦].
وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فعندما أغرق الله من أغرق، وخسف بمن خسف، وأصابت الرجفة من أصابت، وحصب بالحجارة من حصب، كان ذلك جزاءً على جرمهم وذنبهم وكفرهم بالله، فأنفسهم ظلموا، وعلى أنفسهم تعدوا، وهل هناك أشد ظلماً من الشرك بالله والكفر به، وجحود آياته وأنبيائه ورسله وكتبه السماوية، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠]، فهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وبالكفر، وبالجحود، وبالخروج عن أمر الله، وعن طاعة رسل الله بما ارتكبوه من ذنوب ومعاص وآثام.


الصفحة التالية
Icon