تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
قال الله جلت قدرته: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٦].
يعلمنا الله ربنا جل جلاله كيف ندعو الوثنيين والمشركين إليه، وكيف ندعو من كان من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، فلهؤلاء حكم، ولهؤلاء حكم، ويجمع الكل أنهم كفرة لا يؤمنون بالله، وأنهم اتخذوا معه أولياء وشركاء من دونه، فقال جل جلاله: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦].
الجدال: هو الخصام، أي: لا تخاصموهم، ولا تناقشوهم، ولا تحاوروهم إلا بالكلمة الطيبة، فلا تعنيف، ولا شتيمة، ولا صراخ، ولا تقبيح، ولا شتم وذم.
وقد أرسل الله نبيين كريمين -وهما موسى وهارون- إلى من ادعى الألوهية كذباً وطغياناً وجنوناً وحمقاً، ومع ذلك قال لهما: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤]، وهما النبيان الكريمان، والمدعو رجل طغى عليه حمقه ورعونته، فلم يدع النبوة، بل ادعى ما هو أكبر منها؛ ادعى أنه إله معبود من دون الله، ومع ذلك فإن الله جل جلاله أمر النبيين الكريمين بأن يكون كلامهما له ودعوتهما إياه باللين والكلمة الطيبة، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥].
وهنا أجدر أن تقبل الدعوة، وأجدر أن ينصتوا للحق ولدليله وبرهانه.
وهكذا هنا فإن الله جل جلاله أمرنا عند محاورة أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن نجادلهم وأن نستدل عليهم بالتي هي أحسن، أي: بالكلمة الحسنة والطيبة من غير أن يكون هناك خصام ولا شتيمة.
وأهل الكتاب قوم يظنون أنفسهم مؤمنين، وقد حرفوا وبدلوا التوراة والإنجيل، وأمروا أن يعبدوا إلهاً واحداً فعبدوا ثلاثة آلهة: عبدوا الله، ومريم، وعيسى، وسموها الأقانيم الثلاثة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣].
وازداد اليهود كفراً فعبدوا العجل من دون الله، واتخذوه شريكاً وإلها، ثم زعموا لأنفسهم أنهم أبناء الله، ثم زعم ذلك النصارى بعدهم، وقد حكى الله ذلك عنهم، ثم قالوا كما قال الله عنهم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
فكان شركهم قد تجاوز شرك السابقين؛ إذ جعلوا الخلق كله من أصل إلهي، وفيهم جزء إلهي، فكانت الآلهة عندهم بعدد الخلق، فضلوا وأضلوا.
والله جل جلاله سماهم الكفار والمشركين من أهل الكتاب، فهم في الأصل أهل كتاب، اتبعوا موسى في زعمهم، وأنزلت عليه التوراة، واتبعوا عيسى في زعمهم، وأنزل عليه الإنجيل، فهم بهذا الاعتبار أهل كتاب، ثم إنهم حرفوا وبدلوا وغيروا ما في الكتب السماوية.
وفي التوراة المحرفة الغرائب والعجائب، ففيها الاستهزاء بالله، وقذف الأنبياء والرسل بكل طامة وكبيرة من المحارم ومن أنواع الفواحش.
وكذلك الإنجيل المحرف فيه عقيدة التثليث، وفيه تأليه البشر: عيسى ومريم، وفيه أن النصارى أبناء لله، وينادون ربهم ويقولون: يا أبانا الذي في السماء! هكذا يكفرون ويشركون.
فالله جل جلاله يأمرنا أن ندعوهم إلى القرآن وإلى الإسلام وإلى رسالة محمد ﷺ بالكلمة الطيبة.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: ٤٦] أي: إلا الظالمين من هؤلاء الكتابيين، فعاملوهم بمعاملتهم، وأجيبوهم بمثل قولهم، وارفعوا السيف في وجوههم، لأنهم كانوا ظالمين، والظلم يعنى به هنا: تجاوز حدهم بالهجوم على الرسالة المحمدية، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم.
لأن الكفر أظلم الظلم، فكل من كان كافراً كان ظالماً، والكفر ظلم أخص، وهؤلاء منهم من إذا جادلك أو إذا خاصمك، تعرض لنبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسوء، وتعرض لكتاب الله بكل قلة أدب، وقذف وشتم وكذب، وقال ما يقوله كل كافر وقح.
إذا بلغ بهؤلاء وقد ظلموا المسلمين بأقوالهم، وأفعالهم، فلا يكفي فيهم المجادلة بالكلمة الطيبة، ولا بالتي هي أحسن، فمن احتاج السيف فاضربه بالسيف، ومن يكفي فيه الضرب بالعصا، أو السجن وما إلى ذلك، يعامل بمثل ذلك، لا للجدال في الحق، ولكن لتأديبه على ظلمه، وتعديه لسلطانه، وهذا كله مع أهل الذمة، الذين هم تحت سلطاننا وذمتنا من اليهود والنصارى.
أما الحربيون فإنهم يدعون إلى الإسلام، وإلا فالجزية، وإلا فالحرب.
والله أمرنا أن ندعو الخلق كلهم إلى الإسلام، فإن فعلوا فذاك، وإلا فتعرض عليهم الجزية.
والجزية تعني: أن يخضعوا لكتاب الله حكماً، وأن يصبحوا تحت راية الإسلام، فالحكم للمسلمين وهم تحت تصرفهم، مع إبقاء البالغين منهم على دينهم، قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦].
ومن دخل الإسلام أرضه، وأصبح الحاكم فيها، ووجد صغار لم يبلغوا الحلم، فالصغار يعتبرون مسلمين إذا بلغوا وهم تحت حكم الإسلام.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
والفطرة هي الإسلام، وقد أجمع على ذلك شراح هذا الحديث، فإن بلغ الأولاد وهم في بلاد الإسلام فهم مسلمون، ولا يحق لأب أو أم أو لكليهما أن يغيروا دين أولادهم من الإسلام إلى الكفر، ولا يجوز لنا أن نأذن لهم ونتركهم لأن ينصروهم أو يهودوهم، أو يمجسوهم.
وقد كان عمر رضي الله عنه يكتب لولاته وأمرائه وقواده: ألا تدعوا النصارى ينصروا أولادهم، وألا تدعوا اليهود يهودوا أولادهم، وألا تدعوا المجوس يمجسوا أولادهم.
وقوله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: ٤٦].
هذا خطاب لأهل الذمة الذين هم تحت ذمة المسلمين وحكمهم وسلطانهم، أما الحربيون فالإسلام أو الجزية أو السيف، أي: الحرب، وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس الأمر كذلك.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [العنكبوت: ٤٦]، أي: الذميون الذين تجاوزوا حدودهم من قلة الأدب مع الإسلام ونبي الإسلام وكتاب الإسلام، فليس لهم ذمة.
أما الحربيون إن رفضوا الإسلام والجزية، فليس لهم منا إلا السيف، قال تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩].


الصفحة التالية
Icon