تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب)
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٧].
أي: كما أنزلنا الزبور على داود، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وكما جعلناهم أنبياء ورسلاً، وأوحينا إليهم بدين وكتاب، كذلك أرسلناك رسولاً بوحي وكتاب، فأرسلناك بالإسلام للناس عامة، وأوحينا إليك القرآن الكريم المهيمن على ما سبقه من الكتب، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالله جل جلاله حفظه وتعهد بحفظه، ولم يكل حفظه لأحد من خلقه.
وأكبر معجزة للنبي ﷺ هي القرآن الكريم، فهو بعد نزوله بألف وأربعمائة عام لم يغير ولم يبدل لا في سورة، ولا في آية، ولا في حركة حرف أو سكونه، وما ذلك إلا لأن الله تعهد بحفظه.
وأما الكتب السماوية السابقة فلم يتعهد الله بحفظها، وإنما عهد بحفظها لعلماء اليهود والنصارى، قال تعالى: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٤٤]، فعجزوا عن حفظها، ورعايتها، فبدلوا وغيروا.
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [العنكبوت: ٤٧].
أي: القرآن، وهو هدى ونور للمؤمنين بل وللناس كافة، فمن اهتدى به نفع نفسه، ومن جحده أضر بها وما ضر أحداً.
وقوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٧].
أي: والذين آتيناهم الكتاب منهم من آمن بك وصدقك كـ عبد الله بن سلام وقد كان يهودياً، وسلمان الفارسي الذي أسلم وقد كان نصرانياً، فهؤلاء آمنوا بالكتب السابقة، وآمنوا كذلك الكتاب اللاحق وهو القرآن الكريم المنزل إليك.
فهم آمنوا أولاً، وآمنوا أخيراً، لأنهم وجدوا في التوراة والإنجيل اسمك وصفتك ونعتك.
فكان إيمانهم بالكتب السابقة إيماناً بك، لأنهم وجدوا الصفات التي ذكرت في الكتب السابقة منطبقة عليك عندما رأوك وجالسوك، وسمعوا قولك، وسمعوا من القرآن المنزل عليك، فكان ذلك دليلاً وشاهداً وسلطاناً وبرهاناً فآمنوا.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٧].
أي: ومن المشركين الوثنيين من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وعلى آله، ويؤمن بالكتاب المنزل إليه، وأنه كلام الله، وأنه الوحي الحق جاء به جبريل عليه السلام من الله إلى قلبك لتكون للعالمين نذيراً.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٧].
الجحود هو معرفة الحق ونكرانه، فأهل الكتاب وجدوا في النبي عليه الصلاة والسلام الصفات التي في التوراة والإنجيل فآمنوا به وصدقوه.
ومن العرب من آمن به كذلك، وكان هذا في صدر الإسلام، وهذه السورة مكية، على خلاف في ذلك، كما قررنا ذلك في أول السورة.
فكفار العرب رأوا من أمانة النبي عليه الصلاة والسلام، وصدقة وكونه لم يكذب قط على الناس إلى أن صار عمره أربعين عاماً، فعلموا أنه لا يكذب على الله بعد الأربعين عاماً، حاشا الله ومعاذ الله، فمن لا يكذب على الناس لا يكذب على الله.
وقد بقي النبي عليه الصلاة والسلام صادق القول لمدة أربعين سنة، وقد عرفه بذلك الصغير والكبير، والرجل والمرأة، فلا يخطر ببال أنه بعد ما أتم من الأربعين سنة يكذب على الله، جل الله عن ذلك، وجل نبينا عليه الصلاة والسلام عن أن يكذب على الله.
وكان كفار مكة يلقبون النبي عليه الصلاة والسلام قبل النبوة بالأمين والصديق، والصديق صيغة مبالغة، وهي تدل على كثرة الصدق، وعدم الكذب قط، لا تلويحاً ولا تصريحاً.
فالكفار آمنوا به بما علموا من خلقه، ومن عشرته الطويلة معهم قبل الإسلام، وأهل الكتاب آمنوا به لما وجدوا من صفته، ومن نعته في كتبهم السماوية التوراة والإنجيل، استناداً على ما عندهم من حق وسلطان ودليل، على أن محمداً النبي الخاتم والرسول الصادق، صلى الله عليه وعلى آله.


الصفحة التالية
Icon