تفسير قوله تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم)
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١].
قال الله: قل لهم يا محمد: أولم يكفهم؟ وهذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، بمعنى: ألم يكتفوا بنزول القرآن الكريم الذي أنزلناه عليك، يتلى عليهم؟ يسمعون كلامه، ويسمعون وحيه، ويسمعون حلاله وحرامه، ويقرأ عليهم صباحاً وعشياً، ويدعون به إلى الله.
هذا القرآن المعجز الخالد الذي لم يستطع الجن والإنس -وقد تحداهم الله- أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، أو بعشر آيات من مثله، فلم يستطيعوا.
هذا القرآن الذي جاء به محمد النبي الأمي، الذي لا يقرأ ولا يكتب فيه علم من قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، من أين أتاه هذا العلم، وأنتم تعلمون أنه لم يقرأ، ولم يكتب، وعاش أربعين عاما ولا يعرف إلا ما يعرفه قومه، وقومه كذلك أميون؟ يقول النبي عليه الصلاة السلام عن العرب: (إنا أمة أمية، لا نقرأ ولا نكتب).
هؤلاء الذين في مكة جميعهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، ومن تعلم منهم بعد أن خرج للخارج لن يكتب إلا سطراً أو سطرين، وأشبه بكتابة الأمي.
ومرة قالوا: هناك قين رومي كان يجلس إليه، ويستكتب ما يقوله، ولكن هذا الرجل لا يكاد يبين، فليس بعربي، ولا يفهم القول، وهو جاهل، وبعيد عن المعرفة، ولا ينطق بالعربية.
فهذا الكتاب الكريم كيف أتى به؟ وهنا قال النبي عليه الصلاة السلام -فيما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم في صحيحيهما-: (ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر -أي: من المعجزات- وإنما كان الذي أوتيته وحياً، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
وهذا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو المعجزة الشاهدة في كل عصر وأوان على أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أتى بالمعجزات الكثيرات، خاطبه الدواب وفهم عن الدواب، وسجدت له الدواب، واشتكى له الجمل، واشتكى له الذئب، بل إن المنبر الذي كان يخطب عليه في المدينة المنورة عندما حاولوا أن يزيلوه ويأتوا بغيره حن حنين الناقة التي يفصل عنها فصيلها حتى سمع حنينه كل من في المسجد.
النبي عليه الصلاة السلام حضر مغازي وحروبا، فلم يجدوا أكلا، ولم يجدوا شراباً فدعا بما عندهم، فأتوا بكسر قليلة، والجيش فيه المئات، فوضع يده وقال: باسم الله، فأكل جميع الحاضرين، وبقي الكثير من الخير.
ولم يجدوا الماء، وكادون يموتوا عطشاً، فوضع يده وسمى الله، وإذا بالماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، كما تفور العيون من الأرض، فشرب الجميع.
النبي ﷺ -كما في صحيح البخاري، وهو متواتر عن أكثر من عشرة من الصحابة- (صلى الصبح ثم صعد المنبر، فبقي يخطب إلى أذان الظهر، فنزل فصلى الظهر، ثم عاد إلى المنبر، فبقي يخطب إلى أذان العصر، فنزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فبقي يخطب إلى أذان المغرب، فنزل وصلى المغرب واكتفى)، قال عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن معاذ، وحذيفة بن اليمان، قالوا: لقد حدثنا رسول الله ﷺ بما كان ويكون إلى قيام الساعة، ومنذ بدأ الخلق، إلى نهاية الدنيا، إلى حساب الناس، إلى أن دخل من دخل الجنة، ودخل من دخل النار.
لقد حدثنا بما يكون بعده، وما من قائد فتنة ومعه رجل أو رجلين أو أكثر إلا وحدثنا باسمه، وبنسبه، ومتى كان.
كان ذلك من رسول الله وحياً وإخباراً من الله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧].
وتكررت مثل هذه الخطبة، وحدث بالفتن الحادثة بعده، من قتل عثمان إلى استشهاد علي إلى الفتن التي كانت أيام الصحابة، إلى استشهاد آل البيت، إلى ما صدر عن بني أمية، إلى ما حدث بعد ذلك في بني العباس، إلى أن أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها، قيل: يا رسول الله، أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت).
قال هذا والمسلمون في إقبال، ولم يمض على قوله بضع سنوات إلا وأصبح الإسلام يحكم العالم، من أقصى الصين إلى أقصى ديار الغرب، وما بينهما.
فكان هذا عندما يذكر لا يكاد يخطر ببال، كيف سيصل بنا الحال إلى ما نحن فيه، تداعت علينا الأمم من كل جانب، حتى اليهود وهم أذل الخلق وعبدة الطاغوت، لماذا؟
ﷺ لبعدنا عن الله، ولكراهيتنا للموت، ولعدم حربنا وقتالنا لأعدائنا، ولخروجنا عن أمر الله وطاعته، فهي عقوبة لا نخرج عنها إلا إذا تبنا إلى الله وعدنا إليه.
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١].
أي: ألم يكفهم من هذه المعجزات هذا الكتاب الكريم، وهذا القرآن العظيم، وهم أفصح الناس، وأبلغ الناس، وأشعر الناس، وأخطب الناس، وهم أدرى الناس بالبلاغة، وأدرى الناس بالفصاحة؛ من أين لمحمد هذا؟ لقد عاش بينهم أربعين عاما، فلم يكن خطيباً، ولم يكن شاعراً، ولم يعلم الشعر حتى بعد ذلك: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس: ٦٩].
فإذا به فجأة ينزل عليه الوحي، ويأتيه جبريل إلى غار حراء، وينزل عليه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١].
ثم يتتابع الوحي، ويظهر النور، والعلم، والمعارف في كل حركاته وسكناته من فعله وقوله وإقراره.
وكانوا يحاولون سماع القرآن، ولا يريدون أن يسمعوه من النبي وهو يراهم، فكانوا يذهبون إلى داره وهو يتهجد به ليلاً، ويرفع به صوته كما هي صلاة التهجد ليلاً، فيتجمعون وينصتون، إلى أن افتضحوا.
فكان يأتي أبو سفيان، وأمية بن خلف، وأبو جهل وآخرون، وإذا بهم يلتقون صدفة واتفاقاً، ويعرف كل منهم أن الآخر يأتي لسماع القرآن، فأخذوا يقولون: والله لقد قرأنا الشعر، وما هو به، وقرأنا أراجيز العرب وما هو بها، وقرأنا خطب الخطباء، وما هو بها، والله إن عليه لحلاوة، وإن له لطلاوة، ولو سمعته الجن لآمنت به.
وهذا الذي حدث.
فقالوا للوليد: إذاً ماذا ترى؟ قال: أقول: هذا سحر، وهكذا الضلال والغواية، وهكذا إذا لعن الله قوماً طرد النور من قلوبهم بعد معرفته، ولذلك عبر الله بالجحود: ﴿َمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٧]، ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
ولقد قال بعد ذلك عليه الصلاة السلام (إن من البيان لسحراً).
أي: من البيان وشدة الإيضاح ما يسحر عقول الناس، فلا يميزون بين حق وباطل، ولا بين نور وظلمة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٥١].
أي: في القرآن الكريم، وفي هذا الوحي الكريم، لمن آمن به، فيخرجه من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق، ومن الوثنية إلى التوحيد.
قوله: ((وَذِكْرَى)) أي: تذكيراً لما فيه من وعيد وتهديد.
((لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) يذكرهم بأنهم لو لم يؤمنوا، ولو لم يصدقوا أن محمداً رسول الله وخاتم الأنبياء، وأن القرآن الذي أتى به هو من عند الله؛ لعاشوا في الظلمات.
فهو رحمة وذكرى لقوم آمنوا بالحق عندما سمعوه، وشهدوا بالأدلة العقلية الواضحة، وهكذا كان القرآن أكبر المعجزات، وأعظم المعجزات، وأخلد المعجزات.


الصفحة التالية
Icon