تفسير قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم)
قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت: ٦٠].
لا نزال مع الهجرة وترك أرض الكفر والمعاصي، حتى ولو كان الحكام فيها يزعمون الإسلام، ولكن قد يقال: كيف ندع بلدنا وفيه رزقنا، وفيه مسكننا، وفيه عيالنا، إلى بلد ليس لنا فيه رزق ولا زوجة؟
ﷺ إن كثيراً ممن هاجر هاجر بمفردة، لم تسلم امرأته ولم يسلم أولاده، فذهب وحيداً مهاجراً لا يريد إلا الله والدار الآخرة.
وصل إلى المدينة وإلى الحبشة ليس معه قوت ساعته.
وقال الله لهؤلاء المهاجرين مشجعاً لهم ودافعاً لهم إلى الهجرة: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمُْ﴾ [العنكبوت: ٦٠].
كأين: تكثيرية، أي كم من دابة لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ.
فكل البهائم والطيور على كل أشكالها تنتقل في أرض الله، لا تحمل غداءً ولا مؤنة، فتعيش ويدوم عيشها إلى أن يأتي أجلها، لا تحرص على الرزق، ولا تخاف جوعاً ولا عطشاً.
وليس من الخلق من يحمل زاده إلا الإنسان، والنملة والفأرة، فالفأرة تجمع ما تتمون به، والنمل يجمع ما يتمون به لأيام الشتاء، وشدة الزمهرير، أما بقية الدواب والحيوانات فإنها لا تحمل رزقها، ولا تحمل مؤنتها، والله يرزقها.
وكذلك أنتم خرجتم لا مؤنة لكم، ولا مسكن ولا طعام ولا شراب، ولكن الخالق لم يترككم، بل رزقكم وأشبعكم وسقاكم وألبسكم، وهيأ لكم ما تعيشون به مادمتم أحياء.
وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: ٦].
كل ذلك أحصاه اللوح المحفوظ، فأحصى أرزاق الخلق كلهم، جناً وإنساً، طيراً وحيواناً، دواب وحشرات.
وكذلك يقول الله لهؤلاء المهاجرين: اتركوا كل ما عندكم، واذهبوا بأجسامكم، فالذي رزقكم من قبل سيرزقكم من بعد.
وهكذا أمر رسول الله بعد أن نزل أمر الله في الآية: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: ٥٦].
أي: يا هؤلاء اتركوا أرض الكفر، وأرض المعاصي ووحدوا الله وحده، لا تعبدوا معه غيره، إن خفتم الموت فالموت لاحق بكل غريب، وكل من هو بين أهله، وإن خفتم الرزق فرزق العباد على الله، كما يرزق الطير والحيوان وهو ضعيف عن حمل رزقه ومؤنته، ومع ذلك تعهد الله له بكل شيء: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: ٦].
فأمر رسول الله الأصحاب، فهاجروا إلى الحبشة مرتين، وإذا بهم يجدون الأرض الرحبة، ويجدون الأهل المرحبين، فعاشوا خير عيشة، وأسلم ملك البلاد، فساندهم وأيدهم وحماهم، وأسكنهم أحسن المساكن، ورزقهم أحسن الأرزاق، ثم بعد ذلك هاجروا للمدينة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبوا إليها، لا يملكون غداءهم ولا عشاءهم، ولم تكد تمض أيام حتى رزقهم الله الرزق الذي لم يخطر ببالهم، ولم يملكوه يوماً في أرضهم، فـ الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وكثيرون غيرهم كانوا لا يعدون الذهب والفضة عداً، ولكنهم يكيلونها بالمكيال، كما تكال الحبوب، وعندما مات الزبير أرادوا أن يصالحوا زوجه والتي سبق أن طلقت، ولم تنته عدتها، فقالت: هي لا تزال على عصمته، فورثوها وكالوا لها الذهب والفضة، بالمكاييل، هذا دون الأرض.
ذهبوا للمدينة، فتاجروا وزرعوا وتنقلوا، فأغناهم الله من فضله، حتى لقد قالوا: لو أنا إذا تاجرنا بالحجارة والرمال لانقلبت ذهباً وفضة، مبالغة في كثرة الغنى الذي أغناهم الله به، وهذا مصداق قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ [العنكبوت: ٦٠] أي: كما رزقها الله، سيرزقكم.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت: ٦٠].
أي: هو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم، السميع لما قلتم من خوف الموت، وخوف الحاجة والفقر، العليم بصدق بواطنكم، من سيخرج مؤمناً بالله، مصدقاً بوعد الله، ومن سيخرج لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، والله يعامل الناس على نياتهم، وعلى ما في قلوبهم: (إنما الأعمال بالنيات)، فهو سميع للقول عليم بالعمل، لا تخفى عليه خافية، جل شأنه وعز مقامه!