تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي)
قال الله جل جلاله: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: ٩٨].
عندما استجاب لأولئك الذين وجدهم بين السدين وهم لا يكادون يفقهون قولاً، وجاءوه راجين ضارعين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً أو ردماً، وكان يأجوج ومأجوج ظالمين ومفسدين، فاستعان ذو القرنين بقوته وبماله وبمعرفته في البناء حتى إذا أتم ذلك وقد جعله كأنه قطعة واحدة من فولاذ، صب النحاس بين الجبلين وقطع الطريق ما بين هؤلاء وهؤلاء، قال تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧]، فقد بلغ من الإتقان بحيث إنهم لا يستطيعون أن يعلوا ظهره ويتجاوزوه ويقفزوا عليه، ولم يستطيعوا له حفراً ولا نقباً ولا تدميراً ولا تخريباً.
وعندما أتم ذو القرنين ذلك، شكر ربه وحمد نعمته وقال: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ [الكهف: ٩٨] أي: هذا فضل من فضله، ونعمة من نعمه، وكرامة من كراماته، وهذا يدل على إيمان ذي القرنين.
وبهذا العمل الجيد حفظ هؤلاء عن الظلم والتسلط والفساد، ولم ينسب ذلك لنفسه ولكنه نسبه لربه وجعله نعمة من نعمه، ورحمة من رحماته، وهكذا شأن الصالحين.
وهذا الذي فعله نبينا عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة فاتحاً بعد أن لقي من كفارها وصناديدها العنت والكفر والظلم والفساد في الأرض، فلما دخل لم ينسب لنفسه شيئاً، بل دخل مكة وهو يقول: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)، فدخلها مطأطئاً الرأس تواضعاً لله وخضوعاً لجلال الله، وهكذا كان الأنبياء فضلاً عن خاتمهم وإمامهم الذي كان يعمل العمل وينسبه لله ولفضله ولنعمته، وكذلك ذو القرنين وهو شأن الصالحين جميعاً.
وقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: ٩٨] أي: فإذا جاء وعد الله في خروج يأجوج ومأجوج للأرض ونشرهم للفساد، وتجاوزهم أرضهم إلى مختلف بقاع الأرض جعل الله هذا السد أرضاً ملساء وكأنه لم يكن حديداً ولم يكن نحاساً ولم يكن هناك عمل.
وقد ذكروا في الأخبار: أن يأجوج ومأجوج يحاولون يومياً أن ينقبوا هذا الجدار ويحفروه ويهدموه لكنهم يعجزون.
وأنهم كانوا يقولون: غداً نتمم هذا العمل، وإذا بهم يعودون في الغد فيجدون كل ما نقبوا وحفروا قد عاد كما كان، وسيلهمون يوماً أن يقولوا: إن شاء الله فيجدون عملهم بقي كما كان وإذا بهم يتابعون عملهم، وإذا بهذا السد وكأنه لم يكن، ولكن كما قال ذو القرنين وكما قال ربنا: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ [الكهف: ٩٨] فخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى.
وقوله: ﴿جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ [الكهف: ٩٨] قرئ: (جعله دكاً) أي: جعله مسوى بالأرض كالأملس، لم يبق فيه أثر للسور ولا للسد ولا شيء يحول ويحجز بين يأجوج ومأجوج وبين هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً.
وقوله: ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: ٩٨] أي: وعد الله سيحق وسيتم، فوعد الله لا مناص منه ولا محيد عنه ولا مفر ولا مهرب.
وهذه الآية الكريمة تتعلق بخروج يأجوج ومأجوج لإتمام الفساد في الأرض، وقد ورد في الحديث الطويل أن عيسى عليه السلام سيقتل الدجال، فعندما يظهر عيسى وينزل من السماء يذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء، فقد ورد في الصحيح: (أنه يبقى فيها أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وبقية الأيام كأيام الناس، فقيل له: يا رسول الله! اليوم الذي يكون كسنة كيف نصلي فيه خمس صلوات؟ قال: اقدروا له)، بمعنى: أن اليوم أربع وعشرون ساعة، والوقت ما بين الصبح والظهر بضع ساعات، وبين الظهر والعصر ساعتان أو ثلاث، وبين العصر والمغرب ثلاث ساعات أو ثلاث ونصف، وبين المغرب والعشاء ساعة ونصف وهكذا، وينطبق الحديث في عصرنا على أراض قريبة من القطب المتجمد، فاليوم هناك بسنة وهذا باستمرار، وقد وصلت قريباً من حدود هذه الأرض فكانت الليلة لا تزيد على ثلاث ساعات، وفي آخر الشهر القمري والليل أشبه بالمساء قبل المغرب وأشبه بالصباح قبل شروق الشمس، فاليوم عندهم بسنة: ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار، وقد سئل أحد أقاربي وهو من شيوخ شيوخي أو من شيوخي وأنا صغير عن كيفية صلاة المسلمين في هذه الأرض؟ فأفتى لهم وكتب مؤلفاً بأن يقدروا للصلاة قدرهم للحياة والطعام والشراب وللإدارة والحكم، وهذا الحديث نص في هذا.
وبعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج فيعيثون في الأرض الفساد، فيهتكون الحرم، ويسفكون الدماء، ويشربون مياه البحر والآبار والأنهار، ويأتون للشجر وللغابات ويقطعونها ويحرقونها، فيضيق عيسى بهم فيرفع يديه لله ضارعاً أن يريح الناس منهم فيسلط عليهم النغف، وهي الدود تكون في أعناقهم، فيموتون جميعاً ويهلكون، فتنتن أجسادهم وذواتهم فيضج عيسى من ذلك فيرفع يديه لله أن يريحه منهم، فتأتي طير تشبه أعناق الإبل أي: في ذلك القدر، فيأتي كل طائر فيحمل جثة من تلك الجثث فيبتعد بها إلى مكان يعلمه الله، ثم بعد ذلك ينزل الله مطراً لا يكن منه بناء ولا غطاء ولا سقف فينظف الأرض من تلك الأدران والنتن والأوساخ.
وبعض شيوخنا من المغرب وهو القاضي العالم محمد سائح رحمه الله كتب كتاباً وأغرب فيه وأتى بالشاذ من القول، وهو أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا، وهم التتر، وأخذ يذكر عن التتر وعن فسادهم وإجرامهم.
فما قاله عن التتر صحيح، فالتتر كانوا أشبه بيأجوج ومأجوج فساداً، فقد دخلوا ديار الإسلام إلى أرض سمرقند إلى ما وراء النهر، ثم إلى أرض فارس فالعراق فالشام إلى أن وصلوا حدود مصر، وكانوا يرغبون أن يصلوا إلى أقصى المغرب العربي والأندلس، فكانوا لا يتركون بناء قائماً ولا نهراً جارياً ولا شجراً ولا دابة حية، فكانوا يقتلون الرجال والنساء، والدواب والمواشي، ويحرقون الدور والمدن والقرى، ويأتون للأنهار فيبعدون منابعها إلى البحر، وهكذا من أنواع الفساد التي وردت عن يأجوج ومأجوج.
وقد لقي المسلمون من ظلم التتار وفسادهم الكثير، فقد قتلوا الخلفاء والملوك، وهدموا المساجد، وبقروا البطون، وقتلوا الأطفال، وفعلوا ما لم يفعل أحد في التاريخ، حتى كان الفساد ديدنهم وحضارتهم ودينهم، وكانوا يعلنون وعلى رأسهم جنكيز خان ويقولون: إننا سلطنا على البشر لقتلهم وللإضرار بهم، ولهدم دورهم ومدنهم عليهم، وقد ورد متواتراً عن رسول الله ﷺ أن يأجوج ومأجوج سيخرجون من سدهم وسيصبح هذا السد يوماً وكأن لم يكن، وسيكونون من العلامات الكبرى قبل قيام الساعة ولا تكون بعدهم إلا الساعة.
فيأجوج ومأجوج إن كانوا التتر كما زعم شيخنا هذا فقد مضى على التتر إلى اليوم ما يزيد على ثمانمائة عام أو قريب منها ومع ذلك فالعلامات الكبرى مثل: المهدي والدجال ونزول عيسى والريح الحمراء وغيرها من العلامات الكبرى لم يأت شيء منها، وإنما لا نزال نعيش في العلامات الصغرى التي كانت العلامة الأولى منها: بروز نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قال عن نفسه: (بعثت والساعة كهاتين).


الصفحة التالية
Icon