تفسير قوله تعالى: (غلبت الروم)
﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ١ - ٢].
هذا كان خبراً ووحياً عن شيء غائب عن العرب، وذلك بأن الروم حاربت الفرس فغُلبت وذلت، وأُخذت أراضيها وأقاليمها، وقد غلبها الفرس الوثنيون عباد النار.
غلبوا الروم الكتابيين الذين يرجعون لكتاب في الأصل وهو الإنجيل المنزل على عيسى من الله، وأهل الكتاب اسم يشمل اليهود والنصارى، فكلاهما أنزل على نبيه كتاب، فالإنجيل على عيسى، والتوراة على موسى عليهما الصلاة والسلام.
فكانوا قد غلبوا وذلوا وقهرهم عباد النار الوثنيون الفرس، والروم هم في الأصل وثنيون، وفي نهاية القرن الثالث الميلادي دانوا بالنصرانية، ولكن يوم دانوا بها كانت محرفة مبدلة مغيرة، وعقدوا أول مؤتمر لهم ويسمى بالمؤتمر المسكوني، أي: العالمي المنسوب إلى المسكونة، أي: إلى الأرض المسكونة، فاجتمعوا واختلفوا اختلافاً طويلاً عريضاً: ما هو دينهم في عيسى أبشر هو أم إله؟ أو هو ابن إله؟ أمات حقاً وقتله اليهود أم لم يمت؟ وإذا لم يمت فأين هو، وكيف كان حاله؟ ومن هي مريم؟ وكيف ولدته بلا أب؟ وإذا بهم بعد هذا النزاع الطويل العريض يؤمنون بكفر مضاعف، يؤمنون بوثنية مجددة، فاعتقدوا الآلهة ثلاثة، وانفصلوا على ذلك، وهددوا كل من لم يؤمن إيمانهم بالقتل والحرق، فحرقوا كل من لم يؤمن بأن الله ثلاثة، وأن الثلاثة هي: الله وعيسى ومريم حاشا الله وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأخذوا يعتقدون أن عيسى قتل وصلب كما لعب بهم وهزأ اليهود فاعتقدوا ذلك، ولكن اختلفوا في تفسيره وتأويله تآويل مضحكة وتفاسير تدعو إلى الهزء بهم والسخرية من جديد، فقالوا: عيسى رب، وهو عن طواعية قَبِل أن يصلب، وقَبِل أن يقتل؛ ليفدي قومه وأتباعه من العذاب والآثام، والذنوب والمعاصي، فازداد كفرهم كفراً، ووثنيتهم وثنية.
وهكذا أباحوا الفواحش والمنكرات بأن اصنعوا يا أيها النصارى واليهود ما شئتم فقد تحمل عنكم ربكم عيسى، وحاشا الله من القول هذا، فمهما صنعتم فهو قد تحمل عنكم ذلك، ولكن هؤلاء -وقد اعتقدوا بشعار الصلب والفداء- لم يدينوا دين الحق، ولم يكونوا موحدين، ولم يكونوا من أتباع عيسى الذي هو عبد ابن أمة صديقة، أرسل نبياً ورسولاً إلى الناس، كما أرسل الجد الأعلى آدم بلا أب ولا أم، فأرسل هو بأم بلا أب، وهم قالوا إنهم من أبناء يافث بن نوح، أي: لا نلتقي بهم إلا في نوح، فالعرب والكثير معهم أبناء سام، فنحن أبناء سام بن نوح، وهم زعموا أنهم أبناء يافث بن نوح، والروم هي أرض أوروبا، وما يسكنها من شعوب وملل، وأمريكا لم تكن معروفة في ذلك الزمن ولم تكتشف بعدُ، ولكن الذين رحلوا إليها هم من روميّة وأوروبا وطردوا سكانها الهنود الحمر، وأبعدوهم إلى القفار والصحاري، واستباحوا دماءهم وكادوا يستأصلونهم قتلاً وحرقاً وإبعاداً، فلم تبق منهم إلا شرذمة معدودة يعيشون في هوان واضطهاد منذ أكثر من خمسمائة عام منذ اكتشفت أرض أمريكا، فالروم هم هؤلاء الذين هجروا أوروبا إلى أمريكا.
وإذا قيل الروم عند العرب فالمراد سكان أوروبا جميعاً وإن كان قد تشعبوا فرقاً، ومللاً، ومذاهب وأجناساً ولغات، ولكن هذا الاسم لا يزال جامعاً لهم.