تفسير قوله تعالى: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)
قوله: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٣ - ٤].
جعل فرحة كفار قريش لم تتم، فقد أخبر الله نبيه والمؤمنين أن هؤلاء الروم الذين غلبوا الآن سيَغلبون بعدَ بضع سنين.
وكان أبو بكر رضي الله عنه قد جاءه أمية بن خلف وغيره من كفار قريش وقالوا: يا أبا فصيل! يسخرون ويهزءون، والفصيل: ابن الناقة، فهو أبو بكر والبكر هو ابن الناقة وقد اكتمل، فسموه وكنوه بوليد الناقة وهو لا يزال في أيامه الأولى؛ استهزاء.
قالوا: أما ترى هذا الكذب الذي تكذبون، فقد أخبر نبيكم بأن الروم بعد بضع سنين ستغلب الفرس، فقال له أبو بكر: أنت أكذب وأخبث، نعم ستغلب الروم بعد بضع سنين، قال: أتراهنني؟ قال: فعلتُ، قال: كم المدة؟ قال أبو بكر: خمس سنوات، قال: قبلت، وكان ذلك على بضع من الإبل بين العشر والعشرين، وقص أبو بكر قصته على النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (راهنته؟ قال: نعم.
وكان الرهان إذ ذاك لم يحرم، قال: على كم من الزمن؟ قال: على خمس سنوات، قال: ألا تعرف لغة قومك، فالبضع من واحد إلى تسع، فكيف راهنتهم على خمس، والقرآن الكريم الذي أوحاه الله يقول: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٤] اذهب إليه وزده في الرهان وزده في الوقت).
فذهب إليه أبو بكر وقد قال له أمية ما قال فقال: أتريد أن تعيد ونزيد؟ قال: أفعل، قال: أراهنك إلى ثمان سنين، قال: أقبل، قال: وإلى مائة ناقة، قال: أقبل، وإذا به بعد سبع سنوات وقبل تمام الثمان ينتصر الروم على فارس انتصاراً ساحقاً ماحقاً، فحزن كفار الجزيرة وسرّ به المسلمون، لكون المسلمين أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، فاعتُبروا أقرب إليهم من المجوس عباد النار، وحزن كفار الجزيرة لكون الذي انهزم هو أقرب إليهم وإلى دينهم ووثنيتهم، وذاك معنى قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ٢ - ٣] أي: من بعد أن غلبوا وقهروا وانتصر عليهم الفرس.
﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ﴾ [الروم: ٤] أي: سيغلبون الفرس بعد بضع سنوات، أي: بعد سنوات معدودات على الأصابع، والبضع -كما قلت- لغة: هي من الواحد إلى التسعة، والرهان كان مرة ثانية إلى ثمان، وتم النصر كما أخبر الله قبل تمام البضع في السنة السابعة، فكانت الهزيمة وقت معاهدة الحديبية هزيمة الفرس ونصر الروم، وكانت هزيمة الروم قبل سبع سنين في غزوة بدر، فاجتمع النصر للمسلمين من الداخل والخارج، فمن الداخل انتصروا على قريش والكفار انتصاراً ساحقاً، فقد كانت معركة بدر المعركة الفاصلة التي ذل فيها الكفر وعز بها الإسلام، ولم يرفع الكفر بعد هذه المعركة رأساً، وما ذل المسلمون بعد معركة بدر، بل من نصر إلى نصر إلى فتح مكة إلى انتشار الإسلام خارج الجزيرة.