تفسير قوله تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)
قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧] الكلام هنا على أكثر الناس وهم الكفار، على الروم المتحدث عنهم في أول السورة المسماة باسمهم، قال تعالى عنهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧].
وهذه الآية من أكبر معجزات القرآن في عصرنا لمن عاش عصرنا، ولمن رأى رؤيتنا، ولمن رأى هذه المخترعات الطويلة العريضة في مختلف أقطار الأرض عند الروم، فغرتهم، وذهبت بفهمهم وإدراكهم، فأضاعت دينهم أو كادت، وزلزلت عقيدتهم أو كادت، والكثيرون خرجوا من دين الله أفواجاً كما دخلوا فيه في عصر النبوة أفواجاً؛ اغتراراً وضلالاً بذلك، وذهاباً بعقولهم إليهم وهم لا يعلمون.
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٦] يعدل: ولكن الكافرين لا يعلمون، فعاد بالضمير لأكثر الناس فقال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: ٧].
وكيف نسب لهم العلم ثانياً وقد نفاه عنهم أولاً فقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: ٦ - ٧].
هنا نكتة وحكمة انتبه لها الزمخشري ونقلها عنه المفسرون بعده قاطبة، فقال: كيف نسب لهم العلم أخيراً ونفاه عنهم أولاً؟ قال: هو علم أقرب للجهل، قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: ٧].
و (ظاهراً) نكرة مطلقة، أي: شيئاً حقيراً وشيئاً قليلاً من هذه الدنيا، ولا يعلمون باطنها، ولا يحرصون على معرفة باطنها، فحتى الحياة الدنيا جهلوها فضلاً عما يجب أن يعلموه، ويدينوا به، ويقوموا على أساسه، وبه كانوا بشراً ذوي عقول، وذوي رسالات، وذوي كتب سماوية.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: ٧] أي: يعلمون الظواهر من الدنيا، فيعلمون كيف يزرعون، وكيف يحرثون، وكيف يتجرون، وكيف يصنعون الباخرة، وكيف يصنعون الطائرة، وكيف يصنعون سلماً، وكيف يتفننون في الأبنية فما هو مكون من طابق واثنين إلى سبعين وثمانين طابقاً، ولا يعلمون أكثر من ذلك.
فهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ولكنهم يجهلون باطنها، فلم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا أنفسهم: من أنا؟ وكيف خرجت لهذا العالم؟ ولماذا جئت؟ وإلى أين المعاد؟ وما الحياة وما الممات؟ ومن الذي خلق هذه السموات؟ وسينبه الله عن هذا في الآية الثانية، وسنشرحه هناك.
فالدنيا نفسها لا يعلمون إلا جزءاً من ظاهرها وليس جميع الظواهر، فلا يعلمون بواطن الدنيا، ولا يعلمون كيف صعدوا بالطائرات إلى الأجواء، ولا كيف مخروا البحار بالبواخر؟ وكيف قامت هذه الأبنية ذات السبعين والثمانين والمائة طبقة في أجواء الفضاء؟ وكيف عاشوا هم في هذه الدنيا؟ وهل الطعام والشراب يعطي روحاً؟ وما هو العقل؟ وما هي هذه الجوهرة التي بها يكون التدبير، ويكون الوعي، ويكون التذكير، ومن إذا فقدها لا يستطيع شراءها ولو بملء الأرض ذهباً؟ فتلك عطية الله إذا أخذها لا يستطيع أحد أن يأتي بها أو بمثلها، كل ذلك عن الروح، وقل ذلك عن العقل، وقل ذلك عن النفس، وقل ذلك عن البصر، وقل ذلك عن الكلام.
والأطباء كل ما يفعلونه أنهم إذا وجدوا في العين عروقا تالفة فإنهم يربطونها كما يربط الكهربائي الأسلاك إذا انقطعت وذهب الضوء، وأما إذا ذهبت الأسلاك وليست عنده أسلاك فلا سبيل إلى أن يأتي بالنور، وطبيب العيون إذا ذهبت العروق التي خلقها الله فلا يستطيع أن يأتي بالنور، ولا بالإبصار، وإذا ذهبت عروق الصوت من الحلق لم يستطع أن يعطيك صوتاً، ولن يستطيع أن يعطيك كلاماً، وهكذا قل عن كل ظاهر، فلم يعلموا من الدنيا إلا ظاهرها، وأما باطنها فهم أبعد الناس عن علمه، ومعرفة حقيقته وكنهه، فهم جهلاء بكل شيء، وعلمهم لا يتجاوز علم القطة وعلم الكلب وعلم الخنزير، فيهمه أن يأكل وأن ينكح وأن يشرب وأن يفر من عدو، وأن يضرب عدواً، وأما ماذا وراء ذلك فهيهات هيهات.
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النور: ٣٥]، فإذا لم يعط الله أحداً من نوره لم تزدد القلوب إلا ظلمة على ظلمة، فالله يهب نوره لمن يشاء، فإذا وهب نوره وهب علمه ووهب هدايته، ولا يكون ذلك إلا بالرسل والكتب المنزلة عليهم.
وأما الخواطر والأفكار والفلسفات وما يخطر على بال الإنسان فغير محفوظ، فهو لا يزيد على أنه كلام أقرب إلى الهذيان أقرب، وفساد دليل الفلسفة وجميع الفلاسفة لا يخفى، فلا تكاد تجد فيلسوفين من القدامى أو المحدثين اتفقوا على حقيقة الحقائق -الذات العلية- على العطاء الدائم، على الحقيقة التي لا أول لها ولا آخر، عن الله الحق خالق كل شيء، ورازق كل شيء، ومعطي الحياة ومعطي الممات.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: ٧].
هذا الذي يعرفونه لا يتجاوز الظاهر، منذ سنين قالوا: نريد الصعود للقمر، لنرى كيف بدأ الخلق في الأرض وما هي الخلية الأولى؟ وما هي المادة الأولى؟ وكيف كان ذلك؟ فملاحدة العصر وكل الملل سوى ملة الإسلام كفرة ملاحدة لا دين لهم، فالكتابيون أصبحوا وثنيين يعبدون اثنين وثلاثة، والذين يعبدون الأحجار هم على حالهم، فليس إلا المؤمن الموحد المسلم، ومع هذا فهؤلاء المسلمون قد ضل الكثيرون منهم عندما دانوا بدينهم، وأخذوا حضارتهم، ودانوا بفلسفاتهم وأخذوا يطبقون ذلك على دينهم، فضلوا وأضلوا وخرجوا عن الإسلام.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الروم: ٧].
فمنذ سنوات قالوا: نريد أن نصل إلى فلك من هذه الأفلاك التي نراها في الأجواء، فوصلوا للقمر فوجدوه كجزء من الأرض لا يختلف عن صحاريها وعن جبالها وعن وهادها، فأنزلوا منه حجارة وتراباً ووزعوه على معامل الدنيا فحلل ذلك فوجدوه من نفس مادة حجارة الأرض وترابها، وقد بذلوا في هذا الملايين من المال، وأجاعوا الكثير من الخلق، ونشروا الفتنة بين الكثير من الخلق، وكل ذلك قد علمه المسلمون منذ ألف وأربعمائة عام، ونطق به الوحي الذي لا يأتي بباطل، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠].
يخاطب الكفار -وكأن الآية أنزلت الآن- أن السموات والأرض كانتا رتقاً، أي: متصلة وجزءاً واحداً وقطعة واحدة، ثم شاء الله في عصر من العصور وزمن من الأزمان فتق بعض هذه عن هذه، فتق هذه الأفلاك التي نراها فوق فتقها من الأرض التي هي جزء منها، فهي حجارة وتراب وجبال ووهاد، وجدوا الهواء هو الهواء على أنهم لم يجدوا هواءً، والشيء الموجود لا يكاد يذكر، وقالوا: لا حياة فيه، ولا يزالون يبحثون في أفلاك أخر هل يجدونه، ولا تظنوا أنهم وصلوا إلى السماء فهيهات ذلك، فالمصباح المعلق في السقف ليس هو السقف، وقد قال الله عن هذه الأفلاك: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: ٥].
فهي زينة السماء الدنيا، وأما السماء التي يسري إليها خاتم الأنبياء نبينا ﷺ فبيننا وبينها خمسمائة عام، وهي مغلقة، وهي طبق على طبق، وهيهات أن يستطيع أحد أن يصل إليها، فالشياطين يحاولون أن يقتربوا ليسترقوا السمع من الملائكة، فيسمعون كلمة واحدة يعطونها للسحرة وللكهنة، ويزيدون في الكذبات عليها تسعة وتسعين كذبة، فتضيع هذه الكلمة إن صحت بين تلك الكذبات، ولكن لا يكادون يقتربون من ذلك المكان إلا وتأتيهم شهب حارقة تحرقهم جميعاً وكأنهم لم يكونوا ولم يولدوا ولم يخلقوا.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧].
أكد الله ذلك بـ (هم) مرتين، وبالجملة الاسمية مرتين، فهم غافلون عن الآخرة ولا يعلمون شيئاً عن الآخرة، ولا يكلفون أنفسهم بمعرفة شيء عن الآخرة، وهذا شأن الكافرين الضالين والعصاة المتمردين، والآخرة لا تعرف إلا عن طريق الوحي وعن طريق كتب السماء، وعن طريق الرسالات، فكان الله يرسل في كل أمة رسولاً فضلاً منه وكرماً، ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤].
ولكن الله لم يذكر في الكتاب المنزل إلا أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين من الأنبياء، وقد قال وهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨].
فمنهم من قصه وذكره في الكتب كآدم وإدريس ونوح ومن بعدهم.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨] فلم نذكره ولا بكلمة عنه، وقد أشير إلى البعض.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الرسل والأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً ورسولاً، ولم يذكر الله ويتكلم إلا عن خمسة وعشرين حيث أخْذ العبرة والحكمة بما يهدي المؤمنين، ويهدي الناس أجمعين، ومن حجرت عنه الهداية، فستكون حجة الله عليه بالغة، فقد أرسلت إليه الرسالات، وجاءه الأنبياء، وأعلن له من الحق ما أعلن.