تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه)
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم: ٢٧].
أي: هو الذي أنشأنا وأنشأ أمثالنا من خلقه وعباده على غير مثال سابق، بل أخرجهم للوجود من العدم، فالذي بدأهم سيعيدهم تارة أخرى، فلا يعجزه أن يعيد حياتنا بأشباحنا وذواتنا وأجسامنا وأرواحنا.
وقوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧]، أي: أهون بالنسبة لله جل جلاله، وأهون بمعنى: هين، فالبدء عليه هين، و (أفعل) هنا ليست على بابها؛ لأن (أفعل التفضيل) في لغة العرب تقتضي المشاركة والزيادة، أي: بدء الخلق هين على الله ويسير وسهل، وعودته بعد الفناء أهون وأيسر عليه، فقد يكون بالنسبة لعمل الخلق هذا هين وهذا أهون، وهذا صعب وهذا أصعب، وهذا كبير وهذا أكبر، أما بالنسبة للخالق الكبير المتعال، فإن خلق كل شيء هين عليه بداية وإعادة.
وقد تكلم قوم فقالوا: (أهون عليه) أي: الخلق، فالمعنى: خلقنا مرة ثانية أهون علينا من المشقة الأولى والتعب، ويعنون بذلك: ما لقيناه في الخلقة الأولى من كوننا خلقنا في أصلاب الآباء وتسلسل ذلك إلى الأب المباشر، ثم نزول النطفة في رحم الأم، ثم تخلق بعد ذلك في أطوار ومراحل فكان علقة فمضغة فعظاماً، ثم خلقاً سوياً كاملاً، فذلك أصعب على الإنسان ولكن في الحياة الثانية سيكون أسهل على الخلق، فما أن يأمر الله الأرض بأن تخرج ما في بطونها ويأمر الخلق أن يعودوا مرة ثانية إلا قاموا مستجيبين لله دون حاجة لتلك الأطوار الأولى من نطفة فعلقة، ومن حياة صلب فرحم فحمل فبيت فأسرة مستقلة، فعودة إلى التراب، ولكن هذا الذي قالوه نحن لا نشعر به سواء كان هيناً أو كان أهون، أو كان صعباً أو كان أصعب، والمعنى هنا كما قال ابن عباس: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧] الكلام متعلق بالله جل جلاله.
وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم: ٢٧]، أي: هو خالق الخلق وخالق كل شيء من الليل، والنهار، والنوم في الليل، والسعي في النهار، والمطر، والرعود والبروق، والسماء والأرض، ومختلف الألوان واللغات، ومما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وهو الله الموصوف بالخلق والإيجاد والإعادة سبحانه وتعالى.
وقوله: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الروم: ٢٧].
المثل: الشبه، ولا شبه لله، وإنما المعنى: (وله المثل الأعلى)، أي: له الصفة العالية في أنه الواحد في ألوهيته وربوبيته وصفاته، وهو المثل الأعلى الذي لا يصل إليه خلق من خلقه، ومنه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، والمعنى: لا كفء له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وقوله: ﴿فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الروم: ٢٧]، أي: هو الله في السماء، وهو الله في الأرض لا إله إلا هو، له خلق السماوات كما له خلق الأرض، وهو المنفرد بتدبير السماوات كما انفرد بتدبير الأرض، وإلا فهو مستوٍ على عرشه، كما قال سبحانه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم: ٢٧]، أي: العزيز الذي لا يغالب ولا ينازع، وهو ذو العزة والجبروت، الخاضع لعزته ولجلاله كل من في السماوات ومن في الأرض، الحكيم في خلقه وأمره ونهيه، والحكيم هو من يضع الأمور في مواضعها، فالله هو الحكيم جل جلاله في سماواته وفي أرضه، وفي أوامره ونواهيه جل جلاله.