تفسير قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه)
قال تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: ٣١ - ٣٢].
يأمر تعالى خلقه وعباده بالتعلق بهذا الدين القيم الحنيفي دين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فقال تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ [الروم: ٣١]، أي: راجعين إلى الله.
فهؤلاء الذين آمنوا بالدين القيم وبالحنيفية السمحة وبالفطرة التي خلق الله الناس عليها يوم فطرهم وخلقهم وأنشأهم هم منيبون إليه راجعون تائبون خارجون عما عندهم من شكوك وأوهام، ومن باب أولى عما عندهم من شرك وكفر، فهم راجعون إلى الله، وإلى دينه الحق، تائبون مما كانوا عليه من وثنية وشرك.
وقوله: (منيبين إليه) من الإنابة، وهي: العودة والرجوع، أي: العود إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام، فهو خلقهم يوم خلقهم مؤمنين مسلمين، ثم بدلها الآباء والأمهات والبيئات فأفسدت دين الإسلام والإيمان في نفوس الكافرين ممن رضوا الكفر، وأما الدين في نفسه فهيهات هيهات، لقد صانه الله عن كفر الكافرين ونفاق المنافقين، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
فحفظه الله في الصدور والكتب، وحفظه قرآناً وسنة وشريعة ولغة، ونحن نجده اليوم وبعد مضي ألف وأربعمائة عام وكأنه لا يزال غضاً طرياً، فالقرآن الذي كان يتهجد به ﷺ ويدعو قومه إليه نتهجد به نحن، وندعو إليه، والسنة التي كان بها يأمر ﷺ الخلق كذلك نحن ندعو إليها اليوم، فما بدل شيء ولا غير، وحتى اللغة هي هي لغة القرآن الكريم، ولغة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (واتقوه) أي: اتقوا الله من الكفر به، أو من الكفر بكتابه أو بنبيه، واجعلوا بينكم وبينه وقاية من الطاعة تقون بها أنفسكم من النار ومن عذاب الله ومن المخالفة والمعصية، كما قال تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: ٦].
ثم قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [الروم: ٣١].
أي: بعد التقوى التي هي التزام باللسان، يأتي الالتزام بالعمل بعد الشهادتين، وهو إقامة الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها بأركانها وبشرائطها وبواجباتها وبسننها وبتلاوتها وبأذكارها وبقيامها وبركوعها وبجلوسها وبسجودها وبتكبيراتها وبالسلام منها، فحافظوا عليها دواماً وأبداً إلى لقاء الله، فلا عذر في تركها إلا للمجنون أو الصغير غير البالغ، وغير البالغ أيضاً يلزم بها من قبل أوليائه إذا بلغ سبع سنين، ويضرب على تركها وهو ابن عشر.
وهذه الصلاة إن استطاع صلاها قائماً، فإن لم يستطع فجالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإن لم يستطع بالماء فبالتراب، فإن لم يستطع ماء ولا تراباً فبلا ماء ولا تراب ولا تترك.
ولو سمح الله بترك الصلاة لأحد لسمح بتركها للمجاهدين وهم مقبلون على الموت، وعلى بذل أرواحهم رخيصة لله، ومع ذلك أمروا بأن يصلوا صلاة الخوف، بأن تقوم جماعة ثم تتلوها جماعة، فيقاتل هؤلاء ويصلي هؤلاء، فتؤدى الصلاة ولو بتكبيرة أو بتسبيحة أو بالعين كما يصلي المريض والمشلول الذي لا يستطيع حركة، فإنه يحرك عينه ويصلي بقلبه ولا تترك الصلاة بحال من الأحوال، فلا يتركها إلا كافر أو معتوه أو صغير غير بالغ.
ثم قال تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الروم: ٣١].
أي: ولا تكونوا يا أيها الناس! ممن أشركوا بالله في وحدانيته وفي ألوهيته وفي ربوبيته وعبوديته، بل وحدوا عبادته.
قال تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ [الروم: ٣٢].
فالدين واحد كما أن النبي واحد، وكما أن الرب واحد، فمن حاول أن يجعل من الدين دينين فقد أشرك بالله، فلا تتفرقوا في الدين، ولا تكونوا كالنصارى واليهود والمجوس وبقية ملل الكفر، ولا تفرقوا دينكم الإسلامي فتنقسمون إلى سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة وقاديانية وبهائية، وإلى كل تلك الفرق الضالة، بل كونوا على ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت النصارى على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! ومن هي؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ومن هنا كانت دراسة السيرة النبوية هي الحل للاقتداء بالنبي ﷺ في المنام واليقظة وفي الجهاد والسلم، منذ خرج ﷺ من هذه البطاح المقدسة وهو يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، فمنذ ذلك الوقت فما دعا إليه ﷺ وكان عليه أصحابه من المهاجرين والأنصار فهو الدين الحق، فيجب دراسة سيرته النبوية، ليعلم الإنسان ما كان عليه ﷺ ودراسة تراجم الصحابة الكرام، ليعلم الإنسان كيف يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، ويعلم هدي الصحابة؛ ليكون على طريقتهم ومنهجهم، وهذا هو من أطلق عليه منذ العصور الأولى أهل السنة والجماعة ونحن منهم، ونرجو الله أن يجعلنا معهم ويحشرنا على دينهم، دين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الأول.
فقوله تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ [الروم: ٣١ - ٣٢]، أي: كانوا أحزاباً وأنواعاً، مثل قولهم: هذا خارجي، وهذا يهودي، وهذا نصراني، وهذا شيعي، بل وهذا شيوعي، وهذا ناصري، وهذا اشتراكي، وهذا وجودي، وكلها ملل باطلة ومذاهب ضائعة، فهي مذاهب للشيطان ولتفريق الدين، والدين الحق هو القرآن الكريم والسنة المحمدية المطهرة التي طبقها ﷺ وأصحابه من المهاجرين الأولين والأنصار السابقين، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم قال تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: ٣٢].
فهذه الأحزاب والملل الكافرة المكشوفة والمذاهب التي تدعي الإسلام وهي ضالة مضلة الإسلام؛ بريء منها، وهي كلها فرحة بطرة تائهة ضائعة ضالة، تظن نفسها على شيء، فكل حزب من هؤلاء وكل شيعة منهم وكل طائفة منهم تظن أنها على شيء، فتفرح بطراً وتيهاً وتشتم غيرها وتذمه وتنتقصه؛ في حين أن النقص والضلال هو الذي هي فيه وتعيش على أساسه وأصوله.