تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧].
أي: ولقد أرسلنا -يا محمد- من قبلك رسلاً إلى قومهم وعشائرهم.
وهذه الآية تعزية وتسلية للرسول عليه الصلاة والسلام في أنه إذا وجد من بعض قومه أو من بعض أمته من لم يطعه لم يؤمن به، بل وعاكسه وقاومه وكفر بما جاء به، فلقد أرسل قبله أنبياء، فكذبهم أقوامهم وكفروا برسالتهم، فعاقب الله من عاقب، ورحم من رحم، وقليل هم الذين آمنوا وأسلموا، قال تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: ١٣ - ١٤].
وكان الأنبياء قبل البعثة المحمدية يرسلون إلى أقوامهم خاصة، فأديانهم قومية وليست بعامة عالمية، أما الرسالة المحمدية فقد اختصت بكونها عامة وعالمية للخلق كلهم في مشارق الأرض ومغاربها في حياة النبي ﷺ وبعد مماته.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في بيان هذه المعاني التي جاء فيها آيات كثر: (كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة).
فليست اليهودية والنصرانية ديانتين عالميتين، إنما هما ديانتان إسرائيليتان خاصتان باليهود والنصارى من بني إسرائيل، فمن آمن بأحدهما في عصرها لم يطلب منه إلا ذلك، ولم يرسل الرسل الآخرين إليه، وبموت الرسل انتهت رسالاتهم.
وبظهور النبي عليه الصلاة والسلام كانت هاتان الرسالتان قد بدلتا وغيرتا وحرفتا وبالظهور المحمدي نسختا برسالة الإسلام فأصبح الدين الحق والمقبول عند الله هو الدين الذي أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام وحده.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩].
أي: إن الدين الحق والمقبول عند الله هو الإسلام لا سواه ولا غيره.
وقوله تعالى: ﴿فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الروم: ٤٧].
أي: فجاء هؤلاء الرسل قومهم بالبينات والمعجزات والدلائل القاطعات على صدق رسالتهم، وصدق ما بعثوا به من وحي حق، ومن كتب سماوية حق، فآمن من آمن وهم قليل.
ولذلك قال الله بعد ذلك: ﴿فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ [الروم: ٤٧].
أي: آمن قلة ولكن الكثير أجرموا، فارتكبوا أعمال المجرمين، فكذبوا رسلهم وكذبوا الوحي الذي جاءوا به، وكذبوا الكتب السماوية المنزلة عليهم فكانوا مجرمين بذلك، فانتقم الله منهم وسلط عليهم أنواع العذاب والنقمة والشدة بما نسوا به ما كانوا عليه، حتى إذا بعثوا يوم القيامة كان عذاب الله أشد وأكثر نقمة، وأدوم عذاباً ومقاماً.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧].
جعل الله على نفسه حقاً واجباً أوجبه على نفسه، ولا يجب عليه شيء جل جلاله، فالملك ملكه والخلق خلقه، يتصرف فيه كيف يشاء، ولا يقال للمالك: لم تصرفت في ملكك؟ ولكن الله جل جلاله حرم الظلم على نفسه كما حرمه على عباده، ففي الحديث القدسي: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا).
فكان من ذلك أنه أوجب على نفسه حقاً هو نصر الرسل والمؤمنين، فقد كان الرسل مبلغين عن الله، ناطقين بالوحي عن الله، وأتوا برسالات وكتب سماوية ومعهم آيات ومعجزات تؤيد صدقهم عما جاءوا به من عند الله وعدم كذبهم.
فجازى الله من آمن بالثواب وبالنصر على الأعداء وبالخلود في الجنان بعد ذلك، وانتقم من المكذبين المجرمين بالعذاب في الدنيا وفي الآخرة.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يذب عن عرض أخيه المسلم إلا دافع الله عنه أو ذب الله عنه يوم القيامة عذاب النار.
ثم تلا ﷺ قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧]).
فالمؤمنون الصادقون من آمن جنانهم وصدق، ونطق لسانهم بما يحقق ذلك الإيمان بالقلب، وعملت الجوارح والأركان حسب الاعتقاد والقول، فعملت الصالحات والواجبات من شهادتين وصلاة وزكاة وحج وصيام.
فهؤلاء هم المؤمنون حقاً إن كانوا كذلك، والله جل جلاله جعل عليه حقاً واجباً نصرهم على أعدائهم، والعاقبة للمتقين.