تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم)
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
يخبرنا تعالى أن رسوله عليه الصلاة والسلام مستمر على مقامه وإمامته وجلالته، وكونه سيد ولد آدم، وصاحب الشفاعة العظمى، والأنبياء كلهم خلفه، مؤتمون بإمامته ليلة الإسراء، ومع ذلك فلا يقع كثير من الناس فيما وقع فيه من سبقهم كقوم عيسى عندما رأوا منه بعض المعجزات كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص فاتخذوه إلهاً وقالوا عنه: ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
فالقرآن يؤكد باستمرار ويعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول عن نفسه إنه من البشر، ومن هنا تجدنا باستمرار نقول: عبد الله ورسوله وهكذا علمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فالله تعالى يخاطب نبيه ويقول له: (قل) يا محمد! (إنما أنا بشر مثلكم) أي: لست ملكاً، ولا خلقاً من غير البشر ومن باب أولى لست إلهاً، فأنا بشر مثلكم لي أب اسمه عبد الله، وأم اسمها آمنة وتزاوجا كما يتزاوج الناس، واجتمعا كما يجتمع الذكر والأنثى فكنت وليدهم أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر، أحارب وأقاوم، أنتصر يوماً وأمحص يوماً، أحزن وأسر.
وقد جاءه عليه الصلاة والسلام رجل فعندما رآه أخذ يرتعد ويضطرب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) أراد أن يقول عن نفسه: لست من الأباطرة ولا الأكاسرة ولا القياصرة، أنا ابن امرأة عادية فلم يحصل لك هذا معي؟ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام مهما أحببناه ومهما عظمناه ومهما أكرمناه ومهما ذكرنا من صفاته السامية وسيرته العطرة فإنه يبقى في الدرجة الأولى أنه عبد لله من أبناء آدم وحواء، فهو مثلنا في البشرية من سلالة آدم وحواء، وما الميزة التي امتاز بها علينا إلا النبوة والرسالة وكذلك الأنبياء ممن أوحي إليهم، وإن كان كبيرهم وإمامهم محمداً عليه الصلاة والسلام.
فالرسول عليه الصلاة والسلام ولد في مكة، وكفار قريش يعرفون حسبه ونسبه، وقد عاش معهم أربعين عاماً ثم فجأة قال لهم: إنه مرسل من عند الله، وقد كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، فمن لم يكذب في طول هذه السنوات الأربعين أيتصور أن يكذب يوماً على ربه ويقول: أرسلني، وهو لم يرسله؟ حاشا لله! وهو مع كونه بشراً فهو نبي نبئ من الله وأوحي إليه بالقرآن الكريم، وبأن يدعو الخلق جميعاً: من في المشارق ومن في المغارب، من عاصره ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة؛ يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، وأنه رسول الله إلى الأبيض والأحمر والأسود، ألا تعبدوا إلا الله الخالق الرازق، الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، فالكل خلقه، والأمر أمره، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وابتداء العبادة الاعتقاد بأن الله الخالق الواحد لا شريك له لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال، له الكمالات كلها وهو منزه عن النقائص كلها.
فليس عيسى إلهاً ولا مريم إلهاً ولا العزير ولا مناة ولا هبل، ولا شيء مما يعبد الناس سوى الله، فقولنا: لا إله إلا الله ننفي جميع ما يعتقده الناس من ألوهية زائفة في خلق الله، ونثبت الألوهية لله الإله الحق.
والدعوة للإيمان تبتدئ بأن الله واحد، ولذلك كانت الرسالة في مكة المكرمة لمدة اثني عشر عاماً على أن لا إله إلا الله ولم يؤمر فيها بالشرائع أو التكاليف، بل كانت في تزييف الأصنام والسخرية منها وممن يعبدها ويؤلهها من الأحياء والأموات، ومن هنا كان سفهاء قريش يقولون: إن محمداً شردنا، وشتت جمعنا، وسفه آباءنا وفرق بين أولادنا ونسائنا وعبيدنا، أي: دعاهم إلى الله، وهداهم باسم الله، وزيف لهم ما يعيشون عليه من ضلال وباطل، فجعلوا من انفرد دونهم بالإيمان بلا إله إلا الله قد خرج عنهم وسموه الصابئ.
والتاريخ يعيد نفسه، فهكذا اليوم نسمع أن في المجتمعات والمؤتمرات التي تقام في ديار الفسق والكفر وفي جامعات الفساد والإلحاد، يقومون بنشر الإلحاد ويعتزون به ويجعلون أنفسهم تقدميين ومتجددين وحركيين، ويقولون عنا وعن أمثالنا: إننا رجعيون لأننا دعوناهم إلى الله، ورجعنا بهم إلى الله وإلى رسول الله وإلى الإسلام، ونبهناهم أنهم هم الرجعيون الذين رجعوا إلى عبادة الأوثان التي انتهى وقتها وزمنها، ورجعوا إلى عبادة اليهود والنصارى وعبادة الماثوني والبهائي وغيرهم من المؤلهين زيفاً وباطلاً.
وسيبقى الحق دائماً في أخذ وعطاء، ومن ألهمه الله وشد أزره ووفقه ثبت على التوحيد إلى لقاء الله، ونرجو من الله أن يثبت أقدامنا، وينصرنا عليهم وعلى القوم الكافرين.
وقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
الرجاء يكون بالخوف ويكون بالأمل، فمن كان يخاف لقاء ربه يوم القيامة أو يؤمله بأن يغفر ذنبه، ويكشف كربه، ويستر عيبه، فلتكن أعماله أعمال الصالحين المؤمنين، ولا يشرك بعبادة ربه خلقاً من خلقه، لا شركاً خفياً ولا شركاً ظاهراً ولا شركاً قولياً ولا عملياً.
ولله الحمد والشكر أننا قد ختمنا سورة الكهف.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم إنا نشكرك ونحمدك من خلايا أجسامنا جميعها على ما أكرمتنا به من عافية ومن صحة وإيمان ويقين ودعوة إليك، وعمل على نصر دينك، ومدارسة كتابك.
اللهم أحينا على ذلك، وأمتنا على ذلك، واحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، اللهم عليك باليهود والنصارى، شتت اللهم شملهم، خرب ديارهم، أغرق أساطيلهم، اللهم اقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا، وأعز بنا الإسلام والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.


الصفحة التالية
Icon