تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف)
قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤].
الله جل جلاله يدلنا بمنطق العقل والوعي والإدراك على قدرته وعلى الأطوار التي خلقنا فيها.
وتقديم العامل وهو لفظ الجلالة (الله) على المعمول -أي المفعول به- يفيد الحصر، أي: الله وحده هو الذي خلقنا في جميع هذه الأطوار، فلا الأوثان ولا الشركاء ولا الآلهة المزيفة الكاذبة شاركت أو أعانت بشيء من ذلك.
فقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ [الروم: ٥٤] أي: الله خلقنا ضعافاً يوم خلقنا، خلق الأصل وهو آدم من تراب -وما عسى أن يفعل التراب؟ - ثم خلقنا من ماء مهين فهو أضعف من ضعيف، ثم خلقنا بعد ذلك من أضعاف متتالية.
وأطوار خلق الإنسان: النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم يكسى لحماً ثم ينشأ خلقاً آخر، ثم يخرج إلى الدنيا وهو ضعيف لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ذباباً، ولا حشرة صغيرة.
قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ [الروم: ٥٤].
أي: ثم جعل بعد الضعف قوة وهو سن الشباب، فابتدأ الله بالبداية، ثم سن المراهقة، ثم سن الشباب، ثم إلى أن أصبح الشاب رجلاً قد بلغ أشده في القوة العضلية والفكرية والعملية.
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾ [الروم: ٥٤].
أي: ثم عاد بنا للبداية، من القوة إلى الضعف في الظواهر والبواطن، ضعفت الحواس عن وظائفها، وضعفت حركة المعدة في الهضم، وهكذا في جميع أعضاء الإنسان، فصارت بعد القوة ضعفاً وشيبة، وشيباً وشيبة بمعنىً واحد.
فانتقل سواد الشعر إلى البياض، وقوة البدن إلى ضعف، وشيخوخة ثم إلى موت وفناء، كان الله ولا شيء معه وهو على ما كان عليه.
قال تعالى: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤].
فالله جل جلاله الخالق لما يشاء، فهذا خلقه قوياً، وهذا خلقه ضعيفاً، وأدام ضعفه إلى الموت.
وهذا خلقه ضعيفاً ثم قواه وأدام قوته إلى الموت، كم من شيوخ شابت شعورهم ولا يزالون أقوى من الشباب؟ وكما لا يزالون شباباً.
وكثير من الأصحاب والمعاصرين تجاوزوا المائة فلم تشب منهم إلا شعرة أو شعرات، ولم تسقط لهم سن، ولا يزالون يذهبون الأميال على أرجلهم، ويحملون الأثقال التي يعجز عن حملها الشباب، ويعملون في كل الأوقات بما يعجز عنه الشباب، يخلق الله ما يشاء، والله انفرد بالخلق والقدرة، يفعل ما شاء كيف يشاء، لا يسأل عن ما يفعل.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤].
أي: العليم بخلقه وما ينفعهم من الضعف أو القوة، يعلم أن هذا ينفعه الضعف والآخر ينفعه القوة، ويعلم أن من منفعة هذا أن يميته صغيراً وينفع الآخر أن يميته كبيراً، وهو القادر على كل شيء، لا يعجزه شيء جل جلاله وعز مقامه.