تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان: ٦].
يقول ربنا جل جلاله: من الناس ناس يشترون لهو الحديث ويدعون الحق في حديثهم، ويتركون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم يذهبون يبذلون مالهم ووقتهم يشترون به اللهو والباطل؛ (ليضل عن سبيل الله بغير علم) أي: لتكون عاقبة عملهم ونهاية مطافهم فاللام للعاقبة، أو يفعلوا ذلك من أجل أن يضلوا، وتكون اللام لام العلة.
وإن كانت للعاقبة فإن ذلك بالنسبة للمسلمين، أي: إن فعلوا ذلك فإنما يفعلون ما تكون عاقبته ضلالاً ومعصية وباطلاً.
وإن كانت اللام للتعليل فالمعنى أنهم فعلوا ذلك لعلة شراء الباطل واللهو؛ وليضلوا بذلك عن سبيل الله، أي: فعلوه عن نية سابقة وقصد ثابت؛ ليتخذوا من الضلالة هداية مستهزئين بدين الله وبكتابه، أي: ليتخذوا ذلك هزواً ولعباً.
قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان: ٦]، فالله يعذبهم العذاب المذل المهين؛ جزاء ما لعبوا في الدنيا واستهزءوا بالحق واشتروا اللهو والباطل.
وعن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وجماهير التابعين والأئمة وأقسم ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات بأن اللهو هنا هو الغناء والمزامير وما يلهيك عن الله وكتابه وعبادته، واستشهدوا على ذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فالقينات والمغنيات والجواري لا يجوز شراؤهن لهذا المعنى، قال ذلك الصحابة، وممن قال ذلك من التابعين سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب في طائفة من كبارهم وجماهيرهم، فقالوا: إن اللهو هو المزمار وآلات الغناء، وهو الغناء المشغل عن الله الذي تشغل به زمانك وحياتك كلها من الصباح إلى المساء ومن الليل إلى النهار، وتشتريه ببعض المال؛ لتضل عن سبيل الله، ولتنتقل من الهداية إلى الضلال، وتتخذ ذلك هزواً بالآيات وبالإسلام وبالحق الذي جاء عن الله، فهذا الغناء والمجون إذا اشتريتها بمالك فقد اشتريت اللهو بمال وثمن، وعندما تعكف عليهما ليلك ونهارك والناس يعبدون الله ويصلون ويصومون ويتلون ويتهجدون، وأنت من رواية فاسقة إلى مغنية داعرة إلى كلام يدعو إلى الباطل والفحشاء إلى أنواع من الخنا ومن الفحش، ومما لا يجوز من هتك الأعراض وذكر المرأة ومداخلها وبواطنها فقد اشتريت اللهو الباطل بالمال وبالزمن، تركت الحق والعمل بالحق، وذاك باطل ولهو يشغلك عن الله وآياته والدين الحق.
والله عندما يقول: (ومن الناس) أي: من الناس الذين يزعمون الإسلام ومن الناس الكافرين كذلك من يتخذ الغناء والطرب وآلاتهما بكل أشكالها مع المغنيات وكشف أعراضهن وأصواتهن المتخنثة المتكسرة وكلامهن الفاحش، من ذكر محاسن المرأة التي لا تربطك بها رابطة، ورؤيتك لشعرها وخصرها وهتكها لبطنها ولعبها بجسدها، وذاك الباطل الذي لا يجوز أن تشغل به نفسك، زيادة على أنك تدفع فيه المال وتشتريه، فالمال في ذلك حرام أخذه أو دفعه، مع ضياع المال والوقت، وترك عبادة الله وتلاوة القرآن والصلاة والصيام والزكاة والذكر والتهجد والاعتكاف وكل أنواع العبادات، فيدع هؤلاء الناس الذين قال الله عنهم: (ومن الناس) كل ذلك، ويشترون الباطل بالمال، ويضيعون الزمن في سبيل ذلك.
ولهو الحديث هو: الحديث الباطل والذي ليست نتيجته ونهايته إلا الإفساد، من إفساد الرجال والصبيان والنساء والبنات والخدم عن الحق، وشغلهم بالباطل، وتهييج أفكارهم وما في نفوسهم للفاحشة وما يرتبط بها قولاً وعملاً.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [لقمان: ٦] فهو يفعل ذلك وهو لا يعلم أن الله حرم ذلك، ومنع منه، مع أن العقل السليم يأمرك ألا تبذل المال فيما يضر فكرك ومالك وزمانك وما يضيع عليك ما ينبغي أن تشتغل فيه بالحق لتدخره ليوم القيامة عند الله، كما قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: ١٩٧]، وهذا الزاد الذي ستقدمه بين يديك يجب أن يكون عبادة وتلاوة وذكراً وأنواعاً من العبادات منوعة ومشكلة، فلا تذهب فتتزود بالباطل وباللهو، فإنك بذلك تجهد نفسك يوم القيامة؛ لأنك قد تزودت بكل غث وباطل وزهيد بما لا تعود عليك نتائجه إلا بالكفر والإفساد والباطل الذي لا حق فيه ولا نور ولا ضياء.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [لقمان: ٦].
أي: ليكون ضلالة، فاللام لام العاقبة في تفسير وقول، أي: لتكون العاقبة والنتيجة لمشتري الباطل والضلال والفساد والظلمات بعضها فوق بعض بغير علم من الله ولا دليل له ولا برهان من عقل أو نقل، فهو يتصرف تصرف الجاهل البعيد عن الحق عملاً وقلباً، والبعيد دليلاً عقلياً ونقلياً من الكتاب والسنة.
قال تعالى: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾ [لقمان: ٦]، أي: يتخذ آيات الله ودينه ورسالته هزواً يهزأ بها ويشتغل بالباطل، ويهزأ بالعبادة الدائمة ليلاً ونهاراً، وفي كون الإنسان يركع ويصلي، فمن وصل إلى هذا فقد وصل إلى الكفر والشرك، وليس بعد الكفر ذنب، وقد يكون ذلك عن جهالة، ولكن العاقبة تكون انتقاله من الهداية إلى الضلال ومن النور إلى الظلام.
قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان: ٦]، أولئك الذين يشترون اللهو الباطل بالمال؛ ليكونوا مستهزئين بالحق وبالنور لهم عذاب مهين، أي: يهينهم الله بعذابه ويذلهم، فيتحملون أنواع المهانة؛ جزاء ما كانوا يظنون أنهم في دار الدنيا يشترون السرور والعزة والراحة وما ظنوه حقاً وسلواً وإذا به العذاب المهين يوم القيامة.
ويدخل في ذلك كل ما يلهي عن الحق وعن الصلاة والتلاوة وعن العبادة، فما شغل الإنسان عن وقت الصلاة وكان حاملاً على السباب والشتائم وكان سبباً إلى القطيعة بين الأرحام والأصدقاء يدخل في الآية، وما آل للباطل فهو باطل، وما آل للحرام فهو حرام، فقطيعة الأرحام وما يوصل إليها حرام، ومقاطعتك المسلم لدنيا ولباطل حرام، فما يوصل إلى ذلك فهو حرام، ومن ذلك الشطرنج.
وبعض السلف أباح لعب الشطرنج وهم قلة قليلة، وروي ذلك عن الإمام الشافعي وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن أبي وقاص من علماء المدينة وأئمتها وعن الكثيرين، وقالوا عن الشطرنج: يعلم الرأي والفكر والسداد، ولكن ذلك إذا كان لا يشغلك عن الصلاة والعبادة وتعلم العلم وما يكفيك في حياتك للمعيشة ولا يحوجك للناس ولا يبذل ماء وجهك للناس.
على أن أكثر الذي ولعوا بلعب الشطرنج يشتغلون به الليل والنهار، ويشغلهم عن الصلوات، فيصلونها جميعاً وينقرونها نقراً، ولا يفكرون بعد ذلك في مصلحة دينية ولا دنيوية، ونعلم من ذلك الكثير الكثير مما كان سبباً لخصامه مع أهله والافتراق بعد ذلك والطلاق، وأحدهم كان يغيب عن زوجته الليالي ذوات العدد، فإذا عاتبته ولامته صاح في وجهها، فنشأ عن ذلك الخصومة والغث من القول، وكانت النتيجة الطلاق.
فإذا كان الشطرنج أداة باطل ولهو وتمزيق الأسرة وقطيعة الرحم فهو مما حرمه الله وأجمعت عليه الكتب السماوية والرسل في جميع رسالاتهم، وزاد ذلك بياناً خاتم الرسل ﷺ في كتابه الخاتم للكتب، فهو يدخل في هذه الآية.


الصفحة التالية
Icon