تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله)
قال الله جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: ١٢].
لقد نوه الله بذكر لقمان وأشاد باسمه وخلده مع الخالدين وكأنه نبي من الأنبياء، وما هو عند الجماهير إلا ولي من الأولياء وصالح من الصالحين وحكيم من الحكماء.
فـ لقمان جعل الله منه مثلاً لمحاسن الأخلاق والحكمة، ولنشرها وإذاعتها بين من يجب عليه أن يتحلى بمكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام، وجاءت بها قبل الإسلام الأديان السابقة، ولكن الإسلام أتمها وأكملها، وقال صاحب الرسالة المحمدية: (إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق).
اختلف العلماء في حقيقة لقمان: من هو؟ وفي أي عصر كان؟ وهل هو نبي أو ولي؟ فجماهير العلماء على أنه صالح من الصالحين، وحكيم من الحكماء.
وهناك رواية عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس أنه قال عنه: إنه نبي، والطريق إليه لا تصح، ولو صحت لكان قد انفرد بقول لم يقل به غيره.
ولم يذكر الله عنه نبوة ولا رسالة، وإنما ذكر أنه آتاه الحكمة.
وقيل: إن لقمان حفيد ابن عم إبراهيم خليل الرحمن وأبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: هو ابن أخت أيوب نبي الله، وقيل: هو ابن خالته.
وعلى هذا فهو حر من الأحرار ذو نسب معلوم، إما من عشيرة إبراهيم، أو هو من حكماء بني إسرائيل، وكل هذا قد نقل عن بني إسرائيل ولا يعتمد، ولم يأت فيه شيء صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي صح هو ما في الآية الكريمة، وأنه حكيم من الحكماء أنطقه الله بالحكمة فتفجر بها لسانه، وأصبح ينطق بها بما لو جمع لملأ مجلدات ضخمة منذ العصور الساحقة إلى يوم الناس هذا.
وقال قوم: هو حبشي، وقيل: نوبي.
وقيل: هو عبد كان لبني حسحاس يرعى إبلهم ويخدمهم خدمة الموالي لساداتهم، ووصفوه بالسواد وبالمشافر وبالشعر المفلفل وبشق القدمين وبالفطس.
ولو كان كذلك لم ينقصه ذلك شيئاً في مقامه وفي حكمته، فالإسلام لم يفرق بين الألوان والأجناس: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣]، وقد كان المولى من سادات الصحابة كـ بلال مؤذن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك جهجاه أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هكذا الكثير من السلف، وما زادهم ذلك إلا ذكراً وصلاحاً واتباعاً وقدوة بين المؤمنين.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ [لقمان: ١٢] يقول ربنا جل جلاله بأنه آتى لقمان ومنحه وأكرمه بالحكمة.
والحكمة هي: الفقه والفهم والعلم، وإصابة المحز في القول والفعل، ولقد كان لقمان حكيم اللسان والقلب، حكيم النصائح والمواعظ، والله جل جلاله سيقص علينا في هذه السورة التي سميت به نصائح منه ومواعظ لولده.
فقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ [لقمان: ١٢] أي: آتيناه العلم والفهم والإصابة فيما يقوله ويفعله ويدعو له، قالوا: رآه مرة عبد زنجي فقال له: ألست كنت معي راعياً لأغنام بني فلان، قال: بلى، قال: بم نلت ما نلت؟ قال: لأني لم أشتغل إلا بما يعنيني، ولم أر يوماً فيما يعتبر لهواً وباطلاً، وأقول القول إذا علمته، وأسكت عما لا أعلم، وأحترم من سبقني بالعلم والسن والفضل، ومع ذلك أعترف لله بالفضل وبالإكرام، فهذا الذي أنزلني ما تراه! وهكذا: العلم يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يخفض بيت العز والنسب ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ [لقمان: ١٢] أي: أن تشكر لله على ما أعطاك يا لقمان، والشكر يكون باللسان وبالجنان وبالأركان، فالشكر على المال الإعطاء منه نفقات وصدقات وزكوات واجبات ونوافل، والشكر على الحكمة أن تؤديها كما ملكتها لمن لا يعلمها، فتعلم الناس الحكمة وتوجههم إلى الخير، تلك زكاتها وذلك شكرها، مع القول باللسان: أشكر الله على ما تفضل به.
وقوله: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ [لقمان: ١٢] أي: من شكر ربه وحمده على ما أعطاه فهو في الحقيقة يشكر نفسه، ولها قدم، ومن أجلها عمل، فثمرة الشكر أن يكون صاحبه من أهل الخير ومن أهل الجنة، ممن رحمهم ربهم ورضي عنهم، ورفعهم إلى درجات الصالحين والصديقين والحكماء.
إذاً: الشكر على الحكمة والشكر على المحاسن والمزايا والمكارم هو شكر الإنسان لنفسه، وأجره وثوابه له، والعاقبة للمتقين.
وقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: ١٢] أي: ومن جحد النعمة وكفرها ولم يعترف بها ولم يشكر الله عليها فإن الله غني عنه، وهو المحمود في السماوات والأرض، وهو صاحب الحمد المطلق على ما أولى به وأنعم وما خلق ورزق وهدى.
فكفر الكافرين لا ينقص من ملك الله شيئاً، وإيمان المؤمنين لا يزيد في ملك الله شيئاً، وإنما من كفر فنفسه أضر ومن شكر فنفسه نفع.