تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٢٩].
لا يزال الله جل جلاله يلفت أنظار خلقه: ألم تروا إلى قدرة الله المتنوعة العجيبة التي لا يقدر قدرها، ولا يستطيع مثلها إلا هو جل جلاله.
وقوله: (ألم تر) المقصود: رؤية البصيرة ورؤية القلب، فهي رؤية علمية إدراكية.
﴿أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ [لقمان: ٢٩] أي: يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، ويتضح ذلك: أن اليوم والنهار في معتدل الأرض أربع وعشرون ساعة، والشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، والسنة اثنا عشر شهراً، وهذا في أكثر بقاع الأرض، وليس فيها كلها، ففي جزء منها في الشمال عند الجزء المتجمد تكون السنة ستة أشهر ليلاً وستة أشهر نهاراً، وجاء سكان هذه المناطق حجاجاً -فإن هناك مسلمين- قالوا: كيف نصوم ونصلي؟ فقيل لهم: قدروا الشهر، وقدروا اليوم، وقدروا العام بأقرب الأراضي والأقاليم إليكم، وليس هذا اجتهاداً، ولكنه تنفيذ للنص النبوي، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما قال لنا عن الصيام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له)، وهناك يغم في السنة كلها على أنها يوم، فيقدر بأقرب الأقاليم وهكذا وأكثر من ذلك.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام في علامات الساعة الكبرى أنه سيكون عندما ينزل الدجال اليوم كالسنة، واليوم كالشهر، واليوم كالجمعة، واليوم كالومضة من النهار، قيل: يا رسول الله! كيف نصلي عندما يكون اليوم كالسنة وكالشهر؟ قال: اقدروا له، أي: قدروا الصلوات كما تقدر في البلاد الطبيعية بالنسبة للشروق وللغروب، والمعتاد من الأرض أن اليوم -الليل والنهار- أربع وعشرون ساعة، ولكن اليوم في الشتاء يقصر حتى يصبح النهار أقل من سبع عشرة ساعة، بين ثلاث عشرة وأقل، ويصبح اليوم في الصيف سبع عشرة ساعة وقد تزيد، وإن كان اليوم أخذ ينقص قليلاً، فالإيلاج: هو نقصان الليل من أجل النهار، وزيادة الليل لأجل النهار.
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ [لقمان: ٢٩]، يطيل الليل ويقصر النهار، ويكون ذلك شتاءً، ويقصر الليل ويكون النهار طويلاً، ويكون ذلك في صدر الصيف، والذي يفعل ذلك هو الله جل جلاله الخالق المدبر، وكل ذلك لأجل الناس ومصالح الناس، ولزراعة وراحة الناس، وكل ذلك قد مضى مفصلاً، ويأتي بمناسباته كذلك.
فهل الذي أولج الليل في النهار وأولج النهار في الليل الشركاء الذين زعموهم من دون الله؟! وهل هم الوثنيون الجدد من عبدة ماركس ولينين وأمثالهم من الشيوعيين والاشتراكيين والماسونيين والوجوديين، وما إلى ذلك من الملل الكافرة، والنحل الباطلة المعبودة من دون الله، والمشركين لها مع الله؟! فهل هم الذين يولجون الليل في النهار، ويولجون النهار في الليل ويسخرون الشمس والقمر؟!
ﷺ بكل تأكيد إنه الله الذي سخر للناس ما في السماوات وما في الأرض، وما بينهما، فسخرها وذللها للناس، وللعمل بما في منافعها ومزاياها.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [لقمان: ٢٩].
فعندما تغيب الشمس تكون قد طلعت في جانب من الأرض، وهي لا تغيب على الأرض كلها، وإنما تغيب في جانب وتظهر في جانب، وتشرق في جانب وتغرب عن جانب، ولذلك يقال عن العالم الإسلامي: لا تغرب عنه الشمس لحظة ولا ثانية، فالعالم الإسلامي يعد ملياراً من الخلق، وإن كان كغثاء السيل لنزع الشجاعة وحب الموت وقذف الوهن في قلوبنا، مما جعل الأعداء يتشجعون على حساب رجولتنا وشجاعتنا، وعلى حساب ديننا.
والشمس والقمر آيات تمور فتختفي تارة وتظهر تارة في رقعة من الأرض، ولم تختف من الأرض كلها، فالقمر باستمرار يوجد في جزء من العالم الإسلامي، وكذلك الشمس، ويجري ذلك لأجل مسمى وهو يوم القيامة إلى أن يفنى الكل، وإلى أن تصبح الجبال كالعهن المنفوش، إلى أن تبدل السماوات والأرض، ويموت كل من فيها، ويبقى الله وحده ذو الجلال والإكرام.
قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٢٩] أي: ألم تروا أن الله خبير بأعمالكم، فيجازي المحسن يوم القيامة على إحسانه جنة، ويجازي المسيء على إساءته ناراً.
فالله جل جلاله عندما يلفت أنظارنا للبعث إليه، وللحياة بعد الموت، فذلك لنتعظ ونعتبر، ونعلم أننا لم نعش سبهللاً، وأن الحساب والبعث بعد ذلك، وأنه لابد لكل حي أن يعود مرة ثانية.