تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: ٣١].
أي: ألم تر يا محمد! وكل تابع له بل وكل إنسان، ألم ير بقلبه ويعتبر ويفكر ويعي كيف أن هذه الفلك تجري في البحر، وهذا الاستفهام استفهام تقريري يقرر الله تعالى به أن هذه الأفعال لا يستطيع أحد غيره أن يفعل منها شيئاً.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ [لقمان: ٣١].
أي: هذا البحر المتلاطم الأمواج، وقد كان عمر بن الخطاب يتهيب البحر، وقد فتح الأمصار، وبلغت مملكته إلى الشام وإلى العراق وإلى فارس وإلى مصر وإلى المغرب، وزادت بعد ذلك، فطلب جنده أن يغزوا ما بعد البحار فتوقف عمر وتخوف عليهم من البحر، فكتب يسأل من ركب البحر، وهو عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! راكبه مقصود، والخارج منه مولود، والموجود فيه دود على عود، فقال: والله لن يركبوا فيه ما دمت حياً! فتهيب عمر ولم ينشئ أساطيل بحرية، وكان في انتشاره في البر وفي فتحه ما يكفي ويكفي، لقد فتح كل ما اتصل به، وذهب إلى أعماق أرض الروم وقضى على فارس ألبتة حتى أصبحت كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (لا فارس بعد فارس ولا كسرى بعد كسرى) وذهبت أرض مصر، فلم يبق قبط، ولم يبق مقوقس بعد ذلك، وأصبحت جزءاً من أرض الإسلام، وما حدث بعد ذلك كان من خلاف الخلفاء، وإبقائهم الأقليات بغير دليل ولا سلطان من الله.
ثم ذهب إلى أرض البربر إلى المغرب، وكل ذلك يحتاج فيه إلى بحر، فلم يركب بحراً أحمر، ولا بحراً أبيض، ولم يصل إلى المحيط، وإنما كان ذلك بعده في أيام عثمان، ثم بعد ذلك تتابع الفتح واسترسل.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ [لقمان: ٣١].
ألم تر أيها الإنسان هذا الدود الذي يركب العود في أعماق البحار، والأمواج تتلاطم به، وكأنها الجبال، ومع ذلك تمشي هويناً، ومهما قطعت من أشهر، ومن أسابيع، ومن أيام هي واصلة لبر السلامة أي: واصلة لمبتغاها وهدفها، في عالم الأحياء بأمر الله وقدرة الله، وإرادة الله، ذلك من نعم الله على الناس، فكما سخر لهم البر سخر لهم البحر ليريهم من آياته، وليطلعوا على آيات الله وقدرته، وآيات وحدانيته، وآيات جلاله، وآيات انفراده بالألوهية وبالربوبية جل جلاله وعلا مقامه.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: ٣١].
إن في كل ما مضى ذكره من تسخير الشمس والقمر، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وخلق الله الخلق كلهم، وأنهم عنده ليسوا إلا كنفس واحدة إذا قال لها: كوني، كانت، فالكل عليه هين، لا يعجزه شيء جل جلاله، وجري السفن والفلك في البحر؛ كل ذلك آيات ودلائل بينات، ومعجزات واضحات لكل صبار شكور.
والصبار هو: المؤمن يصبر على أمر الله في أداء الواجبات والطاعات والعبادات، لا يعجزه عن القيام بالصلاة برد ولا مرض، ولا علة، إن استطاع قائماً فقائم، أو جالساً فجالس، متوضئاً إن وجد الماء أو بالتيمم إذا لم يوجد.
فهو يصبر على أداء الصلوات، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، وزكاة أمواله.
ويصبر عن الباطل والشهوات والفحشاء كلها، فلا يقربها على قدر طاقته، وهو يذكر الله باستمرار.
وصبار: صيغة مبالغة، على وزن: فعال أي: كثير الصبر.
وشكور: صيغة مبالغة، أي: كثير الشكر، فهو يشكر الله على كل شيء، حتى على ملح طعامه، حتى على شسع نعله، يشكره صباحاً ومساءً.
ونحن نشكره في كل صلاة من خلال قراءتنا سورة الفاتحة فعندما نقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]، هو الشكر المنفرد الله به، ونقول عقب الصلوات: الحمد لله الحمد لله، ونقول عند النوم ثلاثاً وثلاثين: الحمد لله، ونحمده آكلين وشاربين، وأصحاء وعلى كل ما أنعم به علينا، فتلك هي صفة المؤمن، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عجبت لأمر المؤمن، كل أمره له خير، إن أصابه ضر صبر فكان خيراً له، وإن أصابه خير شكر فكان خيراً له) فهو بين صبر وشكر، فكل حياته في خير.


الصفحة التالية
Icon