تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ [لقمان: ٣٢].
أظهر الله جل جلاله امتنانه ونعمته على خلقه فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: ٣١].
وقد ذكر الله الفلك والسفن البحرية وكيف تجري في البحار بأمره، وهذه نعمة من الله، ترى السفن كيف تطوف بين القارات والأقاليم، ويعلم ذلك كل صبار على دينه، شكور لنعمة ربه، فهؤلاء الذين يركبون السفن والفلك منهم مقتصد مؤمن، ومنهم كافر ختار غدار.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [لقمان: ٣٢] فهؤلاء إذا ركبوا البحر وتلاعبت بهم أمواجه حتى أصبحت كالجبال علواً، وكأنها الظلل التي تظل من الشمس، دعوا الله وأخلصوا فإذا غشي الإنسان الموج وغمره وستره حتى يكاد يشعر أنه سيغرق وسيموت دعا الله مخلصاً له الدين، فيخلص في الدعاء ويرجو ربه ويطلب منه أن ينجيه من هذه الأمواج التي هي كالظلل وكالجبال تكاد تغشاه وتغرقه، ولا يذكر إذ ذاك صنماً ولا شريكاً، وإنما يذكر الله مخلصاً له دعاءه ودينه، فهو عند الشدة وعند الضرورة ينسى الشركاء، حتى إذا أكرمه الله وأنجاه إلى البر تجد منهم مقتصداً.
وفسروا كلمة (مقتصد) بأنها كفر دون كفر، أو ومنهم من يقتصد في الكفر يقول بلسانه كلمة الإسلام ويعتقد الكفر بقلبه.
ولكن كلمة (مقتصد) جاءت في القرآن الكريم صفة للمؤمن الذي يقتصد في الذنوب والآثام؛ أي: يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهو مؤمن موحد.
فأما المؤمن الموحد فيشكر الله على ما أنجاه وأنقذه من الغرق وجبال الموج.
وقوله: ((وَمَا يَجْحَدُ)) أي: ولا يكفر، والجحود: هو كفر النعمة بعد العلم بها، فهو يجحد الحق وقد عرفه، ويجحد النعمة وقد عاش فيها.
وقوله: ((وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) الختر: منتهى الغدر وعدم الوفاء بالعهد والذمة؛ والإنسان إذا كان كلما عاهدته وواعدته خدعك فغدر عهدك ووعدك يقال له: ختار، من ختر الذمم وختر العهود والمواثيق.
وختار صيغة مبالغة، أي: كثير الختر والغدر، وعدم الوفاء بالعهد، فمن كان كذلك فالله جل جلاله يعامله معاملة المشركين الغادرين، ويعاقبه بما هو أهل له من عذاب السعير.
وقوله: ((كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) أي: يكفر بالنعمة ويجحد بها، وقد دعا الله مخلصاً له دينه عندما كانت الأمواج تتلاطم في سفينته، حتى إذا أنجاه الله إلى البر إذا به يأبى إلا الجحود والكفر، ونكران ما أكرمه الله به.


الصفحة التالية
Icon