تفسير قوله تعالى: (الم)
قال تعالى: ﴿الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [السجدة: ١ - ٢] إن أكثر السور التي ابتدأت بهذه الحروف المقطعة يذكر فيها بعد تلك الحروف كتاب الله، كقوله تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ﴾ [البقرة: ١ - ٢].
فقوله تعالى: ﴿الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [السجدة: ١ - ٢]، أي: تنزيل الكتاب الذي اشتمل على (الم) وأخواتها من حروف الهجاء التي بنيت عليها اللغة العربية في مفرداتها وجملها وبني عليها كتاب الله في سوره وآياته منظوماً ومنسقاً وقائماً على هذه الحروف الهجائية لم يخرج عنها قط.
والله قد تحدى الخلق جناً وإنساً في أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم عاد فتحداهم في الإتيان بسورة من القرآن، وقد مضى على هذا التحدي ألف وأربعمائة عام والخلق لا يزالون عاجزين وسيبقون عاجزين إلى يوم النفخ في الصور، فهو معجز في اللفظ ومعجز في المعنى، فإعجازه في اللفظ يدركه المتكلمون بالعربية، وإعجازه في المعنى يدركه كل الناس، وقد كتب أحد الفرنسيين بعد أن آمن كتاباً سماه (العلوم في التوراة والإنجيل والقرآن)، ويعني بالعلوم العلوم التطبيقية التي يسمونها التكنولوجية، يقول: كل ما ورد في التوراة والإنجيل ليس صحيحاً ولا مطابقاً للعلم، مما يدل على أن التوراة غيرت وأن الإنجيل غير، ولكن ما جاء من ذلك في القرآن الكريم قد أكده العلم الحديث، كالكلام على السموات، وعلى النجوم، وعلى البحار، وعلى الطبيعة، وعلى الجبال، وعلى الطب، فالعلم الحديث على تحقيقه لذلك وتأكيده له قد سبقه القرآن، وسبق إلى الكثير مما لم يصلوا إليه بعد، وذاك هو الإعجاز، فشيء لم يكتشف ولم يعرف إلا منذ سنوات قد تحدث القرآن عنه وتكلم عنه منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، فذلك هو الإعجاز، وذلك من علامات صدق النبي عليه الصلاة والسلام في رسالته، وتلك الآيات التي طالما لفت القرآن الكريم إليها أنظارنا وبصائرنا مما يؤكد كونه كلام الله لم يأته باطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الحق، والله هو الحق وما دونه الباطل، فالحقائق والمعجزات إنما نزلت وحياً على قلب محمد ﷺ بهذه الحروف المرتبة، وذكرت مفردة في أوائل السور إشارة إليها، أي: إن استطعتم الإتيان بمثله فهذه الحروف تعلمونها، وأنتم -أيها العرب- أفصح الناس وأكثر الناس بياناً وشعراً ونثراً، فاصنعوا مثله إن شئتم، وقد حاولوا، ولكن هيهات هيهات، فقد أتى بعضهم بالكلام المضحك الذي لا يكاد يسمع إلا ويهزأ الإنسان به وبقائله ويعقبه بالضحك لسخافة قائله ولغرابة قوله، وما خطر بباله أنه لا يستطيع أن يضاهي القرآن إعجازاً وبلاغة، قال هذا الزمخشري متحمساً له، وأكده من المعاصرين بالأدلة اليقينية التي تتبعها واستقرأها في جميع السور التي ذكرت فيها، وهو الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى، كما في كتابه في التفسير (أضواء البيان).


الصفحة التالية
Icon