تفسير قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَِ﴾ [السجدة: ٩].
كما نفخ في آدم من روحه تشريفاً له نفخ في هذا الماء، فعندما تنتهي تلك الأطوار كلها يأمر الملك فينفخ فيه الروح، فيصبح بشراً سوياً كاملاً لا فرق بينه وبين الكبير، إلا أن هذا لا يزال ضعيفاً ولا تزال أمامه أطوار يتنقل فيها ليصبح رجلاً أو امرأة كاملة.
يقول تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ [السجدة: ٩] فما الروح؟ يقول ربنا جل جلاله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥].
فالروح مما استأثر الله بعلمه مع مفاتح الغيب، فلا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم بأي أرض يموت الإنسان إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا خالق ما فيها، ولا يدري الإنسان متى تقوم الساعة إلا الله، فتلك علوم استأثر الله بها لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
وكذلك الروح، لا يعلمها إلا خالقها، فنحن نرى آثارها ولا نراها هي، ولا ترى، نرى الجسم يتحرك كلاماً ونظراً وسمعاً وبصراً وذوقاً ومشياً وما إلى ذلك من الفهم والعقل والتدبر، ثم يخرج منه شيء وإذا به يصبح جثة هامدة لا حراك بها، وإن تركناه مكشوفاً جيف، ولذلك يسرع أقرب الأحباء إليه إلى دفنه، وإلى تغييبه في الأرض.
فالروح إذا دخلت الجسم وعاشت حسب إرادة الله لا يجيف الجسد ذلك، ولا يخرج منه ما يكره، إلا إذا كان المرء قذراً لا يتنظف.
أما الميت فمهما غسلته لا بد من أن يجيف؛ لأن الروح قد خرجت عنه.
يقول تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] فاستأثر بعلمها.
والإنسان في هذا العصر وفي العصور الماضية طالما أغرى نفسه بمعرفة الروح، وهناك طوائف من الكفار زعموا أنه في قدرتهم أن يصنعوا الروح كما صنعوا الطائرة والدبابة، ولكنهم يضربون في حديد بارد، ويفكرون تفكير المجانين، وتفكير من لا عقل له ولا إدراك.
فذهب بعضهم فأخذ النطفة البشرية وجعلها في قارورة، وانتظر بها الأيام وإذا بالنطفة تكبر فتصبح مضغة، ثم تصبح قطعة لحم، ثم مضى عليها الشهور فلم تتغير ولم تشكل ولم تسو، فقامت قيامتهم في الأرض، فقالوا: ها نحن استطعنا أن نبتدئ خلق الإنسان، وإن أخطأنا الآن أو فشلنا فسنصيب مستقبلاً، وسيزول فشلنا.
وهم بهذا مجانين، إذ لو فرضنا أن هذه البذرة استطاعوا أن يكونوها؛ فإنها ليست خلقهم، وليست من إيجادهم، فهي كالحبة من النبت نزرعها في الأرض فإذا بها شجرة، وإذا بها نخلة في أجواء السماء، فمن الذي خلق تلك البذرة، وجعل لها التراب والسماد والشمس والقمر والمياه التي كانت بها تتغذى؟! لا جواب إلا أن فاعل ذلك هو الله، فما الذي صنعه الإنسان؟ فلو جاءنا إنسان معه سنبلة قمح أو جريدة من نخل، فقال: أنا خلقت هذه، فسألناه: كيف خلقتها؟ فقال: جئت إلى النواة فوضعتها في تراب خصب، وسقيتها فأشرقت عليها الشمس، وأضاء عليها القمر، وهكذا إلى أن نمت، لأخذناه إلى مستشفى المجانين وقلنا: قد فقد عقله مع فقده لدينه، فما الذي صنعه؟! وقد تحدى الله الخلق في أن يخلقوا ذبابة، ولو اجتمعوا على خلقها من أقطار السموات والأرض لعجزوا ولما استطاعوا، بل لو سلبهم الذباب شيئاً لما استنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب.
فالله هو الخالق وحده، وما صنعناه من طائرات وسفن وما إلى هذا من المخترعات التي رآها الإنسان، فطغى بها وتجبر وأشرك بالله ليس له فيه غير التركيب.
فالطائرة -وهي أعظم ما يتفاخر به- هي عبارة عن شيء من الحديد والأخشاب تطير بشيء من السوائل خلقه الله نسميه النفط، والأجواء هي خلق الله، تحمل الجسم إذا طار فيها.
والعقل الذي جاء بهذه الأشياء من حديد وخشب ونفط وضم بعضها إلى بعض لم نخلقه نحن، ولكن الله الذي خلقه، وما أصدق عبارة القائل: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك.


الصفحة التالية
Icon