تفسير قوله تعالى: (قال كذلك قال ربك هو علي هين)
قال تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: ٩].
أي: أجابته الملائكة الذين أوحوا له بذلك عن الله: (كَذَلِكَ) أي: وأنت على هذه الحال من السن والعتي والكبر ومن عقر المرأة سيصلح الله صلبك، ويصلح رحم زوجتك، فتصب فيه نطفة صالحة، وسينشأ الولد غلاماً زكياً في رحم هذه العاقر، وسينتج ذلك وليداً نبياً صالحاً صديقاً براً تقياً.
وقوله: ((قَالَ كَذَلِكَ)) إي: قال الملك الآتي بالوحي وهو جبريل عليه السلام: ((قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)) أي: قال الملك لزكريا: يقول لك ربك: ذلك عليه شيء هين، أي: أهون، والله جل جلاله إنما أتى بهذه التعابير بحسب اللغة التي نزل بها القرآن، وهي اللغة العربية، وإلا فالكل على الله هين سواء إيجاد الشيء من العدم أو إيجاده بعد ذلك من غير العدم ولذلك قال له ربه: ((قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)) أي: تذكر يا زكريا! أصل خلقتك وأصل أبيك الأول وأمك الأولى، وأمم خلقتهم؟ فهل كان لهم أب صغير أو كبير؟ وهل كانت لهم أم صغيرة أو كبيرة؟ فلقد خلقت آدم من التراب، وخلقت حواء من ضلع من آدم، وخلقت عيسى من أم بلا أب، فلا يعجزه شيء جل جلاله من أن يخلق من العاقر ومن الشيخ الذي بلغ من الكبر ومن السن عتياً وكبراً وفناء أن يخلق منهما الولد الصالح.
((قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)) فإن كنت ستعجب فاعجب من كونك خلقت من أصل خلق البشرية ولم تكن شيئاً موجوداً، فقد كانت عدماً وتراباً، ولم تكن حواء لا من تراب ولا من ذكر ونطفة ورحم، وإنما خلقت من ضلع من أضلاع آدم، كما قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١] أي: من النفس الأولى آدم.
ثم إذ بزكريا من تشوقه للغلام ولظهوره أراد أن يعلم وقت صبه في الرحم وكينونته، ووقت مضغته وتحركه، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً﴾ [مريم: ١٠] أي: اجعل لي علامة أدرك بها وأفطن إلى أن الولد قد صب في الرحم وأخذ يتخلق وينتقل من طور إلى طور: من نطفة إلى علقة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة إلى جنين ذي روح إلى الولادة، فاجعل لي علامة استعلم بها وأميز بها وقت وجود هذا الجنين في رحم هذه العاقر.
فقال الله: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٠]، قال: علامتك أنك ستعجز عن النطق والكلام مع الناس ثلاثة أيام وأنت سوي، فلست أخرس ولا أعمى ولا أطرش، ولكنك تعجز عن النطق وعن الكلام من غير مرض ولا عيب فيك، فعندما تشعر بهذا فتلك هي العلامة على أن يحيى قد وجد في رحم زوجك.
وقال بعض المفسرين: سوياً، أي: ثلاثة أيام متتابعات، ولكن الذي رجحه المفسرون والمعنى له أكثر قبولاً: إن الله أعجزه عن النطق فكانت تلك علامة، وأما كونه من نفسه يسكت ولا يجب ولا يتكلم إلا إشارة فهذا يحتاج أيضاً إلى علامة سابقة ليتصرف هكذا.
وكون ذلك سيكون خلقة من الله فتلك العلامة لا تحتاج إلى علامة جديدة، ففي الصباح الذي يحاول فيه النطق والكلام فيجد نفسه عاجزاً عن النطق والكلام فتلك العلامة.
((قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: لا تستطيع كلامهم وأنت سوي البدن والأعضاء من اللسان والسمع والبصر، فتعجز عند محادثة الناس وعن النطق، ولا تعجز عند الذكر والعبادة والطاعة.
وفي الآية طي وحذف يدل عليه السياق: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [مريم: ١١] أي: دخل خلوته ومحراب عبادته، وأغلق عليه الباب يتعبد ويضرع شاكراً وحامداً وضارعاً إلى أن يتم هذا، ثم بعد ذلك خرج، كما قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ١١] أي: أشار إليهم، فبعد زمن تم الحمل وخرج من خلوته ومعبده وفتح الباب المغلق، فأشار إلى قومه وأتباعه: ((أَنْ سَبِّحُوا)) أي: أن اعبدوا الله ((بُكْرَةً)) أي: صباحاً ((وَعَشِيّاً)) أي: مساء، أي: سبحوه مهللين ومكبرين ومسبحين وقائمين وقاعدين، واعبدوه بأنواع العبادات وخاصة التسبيح والذكر والتنزيه والتعظيم، وزيدوا على ما أنتم عليه من العبادات والطاعات والقيام لله خالصاً له من غير رياء ولا سمعة ولا شرك.
فقوله تعالى: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)) أي: خرج مشيراً لهم وقد عجز لسانه عن النطق، فظهرت العلامة والأمارة التي بينه وبين ربه، فخرج وهو سوي اللسان لا يستطيع النطق، وإنما يشير إشارة.